[تعريف البصيرة وأهميتها]
ما هي البصيرة؟ هل نبحث عنها في الصيدليات، أم في المستشفيات؟ لا.
هذه لا توجد لا في البقالات ولا في المستشفيات، ولا يحصل عليها بكثرة الريالات، ولا بقوة العضلات، ولا بعلو الرتب والمناصب، بل هي: نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠].
أين النور هذا؟ اسمعوا ماذا يقول الله في النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:٣٥] يعني: في قلب عبده: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:٣٥] المشكاة: الفتحة التي في الجدار -في الماضي- وفيها مصباح يعني: لمبة {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} [النور:٣٥] يعني: اللمبة {فِي زُجَاجَةٍ} [النور:٣٥] مغطى بالزجاجة من أجل ألا يؤثر عليه الهواء: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:٣٥] ملمعة ونظيفة كأنها كوكب، وبعد ذلك: هذا المصباح من أين يوقد؟ قال: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور:٣٥] يعني: الزيت والزاد الذي يوقد منه ليس بنزيناً وإنما من زيت زيتونة {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:٣٥] يعني: تصيبها الشمس في الشروق وتصيبها الشمس في الغروب فيأتي زيتها أصفى من الشمس: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:٣٥] نور المشكاة على نور المصباح على نور الزجاجة على نور الزيت تجمعت أنوار أين هي كلها؟ في قلب العبد المؤمن -اللهم نور قلوبنا يا رب العالمين- {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:٣٥].
هذا النور يقول الله عز وجل عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ} [الحديد:٢٨] ماذا؟ {نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:٢٨] وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:١٢٢].
هذا النور -أيها الإخوة- والإيمان، وهو الهداية، هو التوفيق الذي إذا حل في قلبك حيت بصيرتك وانطلقت، ورأت الأمور على حقائقها وأعادت ترتيب المسائل؛ لأن القضايا والأمور والأحداث في حياة الإنسان غير مرتبة الترتيب السليم لفقدان البصيرة، هناك أشياء غير مهمة تجد الإنسان يقدمها، وأشياء مهمة مرفوضة، غير مقدمة مهملة، لماذا؟ لأن البصيرة التي تعرف أن هذا مهم فيقدم، وهذا غير مهم فيؤخر غير موجودة، فإذا جاءت البصيرة بدأ الإنسان يعيد ترتيب قضايا حياته، ويعطي لكل شيء ما يناسبه من الاهتمام.
الآن لما عميت بصائر أكثر الناس، ما عرفوا الأمور على حقائقها ولم يروا إلا ما تراه حواسهم فقط، فرأوا الدنيا، فيعيشون للدنيا التي يرونها ويسمعونها ويشمونها ويتذوقونها ويلمسونها ويتمتعون بها، فلها يعيشون، وبها يفرحون، ومن أجلها يغضبون، وفي سبيلها يموتون، وإذا قلت له: آخرة، قال: يا شيخ! فيما بعد، لماذا؟ لأنها ليست في ذهنه، وليست واردة في حساباته؛ لأنه لا يراها، ليس لديه نور ينظر به، وليست عنده بصيرة يستطيع أن يخترق الحجب وأن ينفذ إلى الآخرة، ولذا لا يرى إلا الدنيا، لماذا؟ قال العلماء: هذه الإصبع إذا وضعتها في المكان المناسب رأيتها بحجمها، تضعها أمام عينك فتراها بوضعها الطبيعي ولكنك تراها وترى ما وراءها، لا تستطيع الإصبع أن تحجب الرؤية عن عينيك وأن تسد أفق النظر عما وراءها، فأنا الآن أرى إصبعي وأرى المجلس المملوء بالمؤمنين، وأرى اللمبات والأعمدة، وأرى الميكرفون، وأرى يدي، لكن إذا قربت الإصبع جداً جداً إلى أن تلصقها بعينك ماذا ترى؟ لا ترى إلا الإصبع فقط، يقولون: وراءها مسجد وراءها أناس، تقول: لا.
لا أرى إلا الإصبع، لماذا؟ لأنك ألصقتها، ما وضعتها في المكان المناسب، لكن إذا أبعدتها قليلاً ترى الناس، كذلك الناس ألصقوا الدنيا بقلوبهم، ألصقوا الدنيا بأعينهم، ألصقوا الدنيا بجميع حواسهم فلا يرون إلا الدنيا، ولو أنهم أبعدوا الدنيا قليلاً -لا نقول: يرفضونها وإنما يجعلونها في المكان الصحيح- لرأوا الآخرة، ولرأوا الجنة والنار.
حارثة بن وهب رضي الله عنه -وإن كان الحديث فيه مقال، لكنه يستشهد به في مثل هذه الأمور- لقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمناً يا رسول الله! قال: انظر ماذا تقول، فإن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: يا رسول الله! عزفت نفسي عن الدنيا وشهواتها؛ فأظمأت نهاري بالصيام، وأسهرت ليلي بالقيام، وأصبحت وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها؛ فقال عليه الصلاة والسلام: عرفت فالزم، إنك امرؤ نور الله قلبك بالإيمان).
إذا أنار الله القلب وفتح البصيرة؛ رأى الإنسان الدنيا والأمور كلها على حقيقتها، ورأى الله في كل شيء.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
ينظر إلى السماء فيرى آثار قدرة الله في خلق السماء فيقول: لا إله إلا الله! سبحانك {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩١].
ينظر إلى البحر فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من أجراه.
ينظر إلى الجبال فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من أرساها.
ينظر إلى الأرض فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من مدها وبسطها.
ينظر إلى الثمار فيقول: لا إله إلا الله! سبحان من حلاها وأنبتها.
ينظر إلى العسل وهو يأكل ويقول: لا إله إلا الله! سبحان من أخرج هذا العسل من هذه الحشرة.
يأكل الموز فيقول: سبحان من أخرج هذا الشيء من الطين! {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد:٤] لماذا؟ فتح الله بصيرته، لكن البهيمة التي لا تعرف الله وليس عندها إيمان ولا نور تأكل من اللوز ومن الموز ومن اللحم ومن العسل ومن كل شيء، ولا تقول: سبحان الله! ولا تقول: لا إله إلا الله! لماذا؟ مثل الدابة أو الثور أو الحمار -الله يكرمكم- إذا أكل علفاً هل يتفكر في هذا العلف كيف ساقه الله له؟ أبداً، يأكل حتى تمتلئ بطنه ويذهب فيركب أنثاه، وكذلك بعض البشر يعيش حياة البقر وحياة الحمير لا فرق بينه وبين البهائم والعياذ بالله.