للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[يوم الحسرة]

من ضمن أسماء يوم القيامة: (يوم الحسرة)؛ لأن القلوب في ذلك اليوم تتقطع ندماً، وأسفاً، وحسرةً على ما فاتها من طاعة الله.

يتمنى أنه قضى عمره كله في طاعة الله، ولم يقض ليلة، ولا ساعة، ولا لحظة إلا فيما يرضي الله ويحبه عز وجل، وحينما يرى السلع تقسم يوم القيامة على الناس على قدر الأثمان المقدمة، الذي يأتي بثمن يأخذ سلعته، والذي يأتي مفلساً يغمس في النار.

فأهل الإيمان يأتون بثمن: إيمان، وعمل صالح؛ والسلعة الغالية: الجنة، والخاسر ما عنده شيء، ضيع أيام الفراغ التي كان يمكن أن تستغل وتملأ بالعمل الصالح والإيمان، وأوقاته ضيعها في العلم الفاسد، والكفر، والنفاق، والعصيان، ليله ونهاره في معصية الله، منشغل أربع وعشرين ساعة مع الشيطان الرجيم، فإذا مات وأُقدِم على الله عز وجل فلن يجد ثمن جنة عالية، وقصور عالية، وأنهار جارية، وزوجات جميلات، وولدان مخلدون، وثمار دانية؛ لأن هذه كلها تريد ثمناً، وليس عنده ثمن؟ مفلس، ما عنده شيء ينفعه يوم القيامة، فيتندم ويقول: لماذا هذا أخذ، وأنا ما أخذت؟ كان معي في الدنيا؟ لأنه تزودَ بالمال الذي ينفعُ هنا، وبالعمل وبالإيمان الذي ينفع هنا، وأنا ما عندي شيء، فيحصل في قلبه حسرة وندامة ما حصلت على قلب إنسان على وجه الأرض، يقول الله عز وجل: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:٣٩] أنذرهم وخوفهم مما يحصل للناس من حسرة في ذلك اليوم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:٣٩].

وسمي (يوم الحسرة)؛ لشدة تحسر الخلائق وتندمهم على ما فاتهم، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، أما الكفار فلعدم الإيمان، يقول عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:٣١].

والكفار أيضاً يتحسرون يقولون: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:٥٧ - ٥٨] يقول الله لهم: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:٥٩] ويقول الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:٦٠] مسودة من ظلمة المعاصي {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:٦٠ - ٦١] نسأل الله أن ينجينا وإياكم من النار، وينجي الله من؟ الذين اتقوا: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:٦١].

وتبلغ الحسرة ذروتها، وتتناهى الحسرة عند أهل الضلال؛ عندما يتبرأ منهم أتباعهم والذين أضلوهم؛ لأنهم في النار لا يوجد أحد إلا وقد أضله أحد الضالين! والذي أضل الناس كلهم من البداية هو إبليس، القائد العام للعصاة والمجرمين، وهو أول من عصى الله، قال الله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر:٣٠ - ٣١] هذا أول عاصٍ وبعدها: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:٨٢] أجعلهم كلهم عصاة معي، قال الله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:٢٠] فهؤلاء أول من يتبرأ منهم يوم القيامة إبليس، ويحصل عليهم بهذا حسرة وندامة لا يعلمها إلا الله.

وجاء في القرآن في سورة إبراهيم ذكر ذلك، يقول عز وجل: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:٢٢] يقول العلماء: إن هذا الكلام على أهل النار أعظم عليهم من كل عذاب في النار، عذاب قطع قلوبهم، يركب عليهم الشيطان ويقودهم كالحمير حتى يصل بهم إلى جهنم، فإذا وقعوا قال لهم: من أمركم أن تطيعوني؟ ما كان لي عليكم من سلطان، ولا أخذتكم بالقوة، وإنما دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم.

وفي النار أيضاً يتبرأ شياطين الإنس من بعضهم، وهم الذين كانوا في الدنيا يدعون بعضهم إلى الكفر والضلال، وهؤلاء يقول الله فيهم: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} [البقرة:١٦٧] قال الله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:١٦٧] حسرات، تتقطع قلوبهم حسرات وندماً، يقول: أنا عشت أربعين أو ستين سنة مع الشيطان، لِمَ لم أعشها مع الله؟ أنا كنت أنظر، لِمَ لم أنظر إلى ما يحبه الله؟ أنا كنت أسمع، لِمَ لم أستمع إلى ما يحبه الله؟ أنا كنت أتكلم وأخوض في المجالس، لِمَ لم أتكلم بما يحبه الله؟ أنا كنت آتي وأذر، وأقوم وأقعد، وأسهر وأنام، لماذا لم أجعل عملي كله في طاعة الله؟ قال الله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:١٦٧] هذه حسرة الكفار.

أما أهل الإيمان فعندهم حسرة أيضاً، ولكن كيف يتحسرون؟ يتحسرون على أنهم ما زادوا من العمل الصالح، كل واحد يحب أن يزيد، فالذي بنى مسجداً يقول: ليتني بنيت مسجدين، والذي يصلي يقول: ليتني كنت أول شخص يدخل المسجد، والذي ما يقوم الليل يقول: يا ليتني كنت أقوم الليل، والذي كان باراً بوالديه يقول: يا ليتني بررت بهم أعظم ما دام أن طريق الجنة من عندهما، والذي كان واصلاً لرحمه غير أنه مقصر قليلاً، يقول: ليتني كنت أعلم أن ثواب صلة الرحم مثل هذا، والله ما كنت أدعها كل يوم لابد أن أتصل بها، ولابد أن أعطيها، ولابد أن أهدي لها، حتى أطلب منها دعوة وأنا خارج: سامحيني يا أختي يا عمتي يا خالتي، فأنا مقصر في حقك، تقول: سامحك الله، مد الله في أجلك، وسع الله في رزقك، نوَّر الله عليك، هذه الدعوات ليست سهلة عندما تأتيك من رحمك، لكن ما ظنك لو قطعت رحمك، وقالت: قطع الله رزقه، وألهب عظامه، إذا قالته الرحم، هل تدري أن هذا الدعاء لا يرد، لماذا؟ لأن (من قطع رحمه قطعه الله، ومن وصلها وصله الله).

فكل واحد من أهل الإيمان وهم في الجنة يتحسرون ويتندمون على أنهم ما زادوا في العمل الصالح، وما استزادوا من أعمال البر؛ لأن أعمال البر كثيرة، ومجالات الخير واسعة، والإنسان لا يشبع من خير حتى تكون نهايته الجنة.

هذا الاسم اسمه يوم الحسرة، تتقطع القلوب فيه حسرات على الجنة والتفريط في العمل الصالح في الدنيا.