للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شعب الإيمان]

أما الشق الثاني فهو: (شعبه) أي: طرقه ومجالاته، وجاءت هذه الشعب محددهً في صحيح البخاري وصحيح مسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضعٌ وستون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).

(بضع وستون) هذه رواية البخاري، أما رواية مسلم: (بضع وسبعون) والبضع هو: من الواحد إلى التسعة، يقال للواحد، أو الاثنين، أو الثلاثة إلى التسعة: بضع، قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:٤٢] أي مجموعة من السنين: من واحد إلى تسعة.

شعبة: أي مجالاً، أو طريقاً، أو فجاً، أو معنىً، أو مفهوماً، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم ثلاث شعب، فذكر أعلى شعبة وأدنى شعبة، وذكر شعبة تضم كل الشعب، وهي: (الحياء).

يقول أهل العلم: لماذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أعلى شعبة وأدنى شعبة، ثم ذكر الحياء من بين سائر الشُعب؟ قالوا: أما ذكره لأعلى شعبة وهي: (لا إله إلا الله) فهذا واضح، من كون العقيدة أهم ما في الدين؛ لأنها الأساس الذي يبنى عليه الدين، فلا يقبل الله عملاً إلا إذا كان التوحيد صحيحاً، فلو قمت في المسجد قيام هذا العمود، ولو حججت طوال الأزمنة، ولو أنفقت ما في الدنيا والعقيدة فاسدة؛ فإن الله لا يقبل هذا العمل مطلقاً.

يقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:٦٥] ويقول عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:٨٨] ويقول عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:٢٣] فأهم شيء في دين الله هو العقيدة والتوحيد، وهي الأساس، إذا وجدت العقيدة؛ وجد إعمار، وقامت بناية الدين، وإذا لم توجد عقيدة، أي: ليس عند الإنسان دين، حتى ولو كان عنده وَهْمٌ أنه صلى صلاة ولكنها باطلة، أو زكاة لكنها مردودة، أو حج لكنه باطل، لماذا؟ لأنه منسوف من أساسه، لا يوجد له أساس، ولا قاعدة، إذ القاعدة هي: الدين، فذكر صلى الله عليه وسلم أعلى شيء في شُعب الإيمان، وهي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله): أي لا معبود بحق إلا الله، تنفي جميع الآلهة، وتثبت الألوهية الحقة، والعبودية؛ لله سبحانه وتعالى.

أما ذكر أدنى شعبة من شعب الإيمان، وهي: إبعاد الأذى عن الطريق، فلبيان أن هذا الدين منهج حياة، وأنه ينتظم كل شئون الحياة في الدنيا والآخرة، حتى عملية بسيطة من أعمال الناس، وهي تنظيف الشوارع، بالرغم من أن هذا العمل من أعمال البلديات، لكن الإسلام يجعله من شُعب الإيمان، ومن مسئوليات المؤمنين، إذا مررت في الشارع ورأيت منديلاً، أو قرطاساً، أو مسماراً، أو زجاجة، أو أي أذىً يؤذي المسلمين؛ من الإيمان أن ترفعه وتبعده، أما إذا رميت به في الشارع فأنت بهذا تخالف شعبة من شعب الإيمان.

والشعبة الثالثة: الحياء: قالوا: لأن الحياء يمثل ستاراً يستطيع الإنسان أن يغطي به جميع شعب الإيمان، إذا فقد الحياء فقد الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان والحياء مقرونان، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر) (وكان صلى الله عليه وسلم أشد وأعظم حياءً من العذراء في خدرها) والحياء يحجزك عن المعاصي، وتستحي أنك تعصي الله، وأن تتأخر عن الفريضة، وأن تهجر القرآن، وألا تقوم إلى طاعة الله، وأن تنظر وتسمع ما حرم الله، لكن من هو الذي يأتي هذه المحارم ويترك الطاعات؟ هو قليل الحياء السيء، الذي لا يستحي من الله -والعياذ بالله- ولهذا فإن الحياء شعبة من شُعب الإيمان.

الآن عرفنا ثلاث، وبقي ست وستون شعبة لم يحددها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل العلم -رحمة الله عليهم- غاصوا في نصوص الشرع في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلما يستخرج الغواص اللؤلؤ من أعماق البحار؛ استخرج العلماء الشُعب من بطون الكتب والمراجع، وحددوها بتسع وستين شعبة، وقد ذكرها الإمام ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري، نقلها عن الإمام ابن حبان ثم قسمها ثلاثة أقسام: قسم يتعلق باللسان، وقسم يتعلق بالقلب، وقسم يتعلق بالجوارح.

تسع وستون شعبة: منها سبع شُعب يقولها اللسان، ومنها أربع وعشرون شعبة يعتقدها القلب، ومنها ثمان وثلاثون شعبة تتعلق بالجوارح، المجموع كله تسع وستون شعبة، ثم ذكرها بالتفصيل، وسوف نتكلم عنها على سبيل الإجمال، لن نفصل في سردها؛ لأن كل واحدة من هذه الشعب تحتاج إلى محاضرة، ولكن على سبيل الإجمال والإيضاح المقتضب.

ونبدأ بالسبع التي تتعلق باللسان: