للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الدنيا]

هذه الدنيا حذرنا الله عز وجل منها، ومثَّلها العلماء، يقول ابن القيم: إن الدنيا كامرأة عجوز شوهاء.

الدنيا مَثَلُها مَثَل عجوز، نحن الآن في آخر عمر الدنيا، تحسبونها جديدة؟! انتهت، الآن لم يعد منها إلا أيامٌ يعلمها الله، فالنبي آخر نبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب آخر كتاب، والأمة المحمدية آخر الأمم، وما بقي إلا الساعة، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (أنا نبي الساعة).

وقال: (بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين، وكادت أن تسبقني) فالدنيا عمرها طويل.

فشبَّهها العلماء: كامرأة عجوز مُسِنَّة قد عميت عيناها، وسقطت أسنانها، وانحنى جسمها، وتجعد وجهها، وانحنى ظهرها، وشاب رأسها؛ ولكنها لا زالت تحب التصابي.

فهي عجوز ليس معها سن، ولا معها شعرة سوداء في رأسها، وظهرها مُعْوَج، وحالتها تُشْكَى إلى الله، ومع هذا تعطَّرت، وتخضَّبت -تَحَنَّت- ولبست الذهب، ثم تَحَجَّبت، حتى لا يراها الخُطَّاب، فلو رأوها على حقيقتها فلن يلاحقها أحد، فأخذت لها غطاءً وحجاباً، وجاءت إلى هؤلاء الذين لا يعرفونها وقالت لهم: هكذا يرفع الشيخ حاجبَيه مِرَاراً، من تحت العباية، فيقتربون منها وإذا بها معطرة وإذا بصوت الذهب، فكلما اقتربوا منها أفلحت قليلاً، تفلح قليلاً، ولا أحد يدرك هذه الدنيا إلا عند نقطة الموت، فإذا صارت عند الموت قالت: انظروا إلي! فتكشف وجهها.

فيقولون: الله أكبر عليكِ! ظهرتِ أنك بهذا السن في الحياة ونحن نطاردك؟! والله لو علمنا ما طاردناك، ولهذا يقولون عند الموت: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:٩٩] يقول: رب أرجعني، لماذا؟! قال: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:١٠٠] لأن هذه الدنيا غرَّته، ضيعته العجوز الخبيثة هذه، لم يعلم بسِنِّها، ولا بوجهها، ولا بشكلها، غرَّته رائحتها، خدعته زينتها، خدعته إشارتها؛ لكنه لو عرف حقيقتها ولو علم بشكلها والله لن يتبعها.

ولهذا يقول أصحاب قارون لما خرج في زينته وهم لا يعرفون حقيقة الدنيا: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:٧٩]؛ لكن أهل العلم ماذا قالوا؟! {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:٨٠] فأهل العلم بالحقيقة، أهل العلم بالدنيا، هؤلاء يعرفون أنها غدارة، خداعة، مكارة، ترضع؛ ولكنها تفطم، تعطي؛ ولكنها تمنع، تحيي؛ لكنها تميت، انظروا إلى عملها بأهلها! تجد الشخص بينما هو في عزته ومَنَعَته وسلطته وشغلته وإذا به يقال له: انزل، تفضل، هذا القبر الآن، وهو في قوته وإذا به يموت بين أولاده، وإذا به يخرج من قصره فيرجع إلى قبره، في نوره فيخرج إلى ظلامه.

يقال في كتب العلم: إن ملكاً من ملوك الدنيا كان يمشي في خيله ورَجِله وموكبه، فجاءه ملك الموت في هيئة رجل ذو أسمال بالية وثياب مقطعة، فاعترض الموكب وأمسك بخطام الحصان وقال للملك: انزل، ادنُ مني.

قال: مَن أنت حتى تجرؤ على هذا؟! قال: أنا ملك الموت.

قال: أمهلني.

قال: لا أمهلك حتى لحظة.

فقبض روحه، وخرَّ بين قوائم فرسه، هذا عمل الدنيا بالناس، تمهلهم؛ لكن تأتي بهم من قريب، وليس معنى ترك الدنيا أو معاداة الدنيا أننا لا نعمل فيها! لا.

هذا الفهم ليس فهماً شرعياً، ومعنى عداءك للدنيا، أي: عداءك للدنيا التي تضلك عن الله، أما الدنيا التي تعينك على طاعة الله فهي ليست دنيا إنها دين، وإذا توظفت وقبضت المال من حلال، واستعنت به على طاعة الله، فوظيفتك هذه وظيفة دينية؛ لأنك تخدم بلدك، وتساهم في بناء مجتمعك، وتسد ثغرةً من ثغرات المسلمين، وتؤدي واجباً من واجبات الأمة، وفي نفس الوقت استعنت بهذا المال على طاعة الله؛ أنفقت منه على زوجتك وعلى أبنائك، وأكرمت منه ضيفك، وأعطيت الفقير منه، وقمت بالواجبات، وأخرجت الحقوق والزكوات، هذا المال وهذه الوظيفة تعتبر دِيناً.

إذا كنت تاجراً وصدقت في تجارتك، ولم تكذب، ولم تغش، ولم تخدع، وأوردت للناس أي: لم تحتكر البضائع على الناس، فتجارتك هذه دِيناً.

إذا كنت مزارعاً وجلبت الأرزاق للناس، فزراعتك هذه دِيناً.

إذاًَ: الدنيا التي نحذر الناس منها هي: الدنيا الصادَّة عن الله، التي تصرفك عن طاعة الله، الدنيا التي تستخدمها وتستعين بها على معصية الله، أما دنيا تسخرها في طاعة الله فنِعْمَ المال الصالح في يد العبد الصالح، يقول عليه الصلاة والسلام لـ عثمان بعد أن جهز جيش العسرة: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم) جهز ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ولما قَدِمَت على المدينة قافلته وتجارته، وقام التجار يرابحون فيها، وأعطوه في الريال ريالاً، أي: الربح - (١٠٠ %) - قال: قد جاءني أكثر، قالوا: نعطيك في الريال ريالين -أي الربح: (٢٠٠ %) - قال: جاءني أكثر، فما زالوا به حتى أوصلوها إلى خمسة ريالات، -أي الربح: (٥٠٠ %) قال: قد جاءني أكثر، فاجتمعوا وقالوا: مَن ذا الذي أعطاه أكثر، وهو لا يكذب؛ ها نحن تجار المدينة، هل أحدٌ منا أعطاه أكثر من خمسة؟ قالوا: لا.

فجاءوا إليه، فقالوا: من ذا الذي أعطاك أكثر؟! لا يوجد أحد منا أعطاك أكثر! من الذي أعطاك؟! قال: أعطاني ربي، الحسنة بعشر أمثالها، هي لله -ثلاثمائة بعير محملة بالبر والطحين بأحلاسها وأقتابها كلها لله- قال عليه الصلاة والسلام: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم).

إذاًَ: هذه الدنيا ما رأيكم فيها؟! دنيا أم دين؟ دين.

وطريق مجاهدة الدنيا ومصارعتها أن تنظر إليها بالمنظار الرباني، فتأخذ منها ما أحله الله، وتستعين بها على ما يحبه الله، وتتوقى وأنت تسير فيها، فلا تضع قدمك إلا في أمر يحبه الله، ولا تنظر بعينك إلا في أمر يحبه الله، ولا تسمع بأذنك إلا ما يحبه الله، ولا تتكلم بلسانك إلا فيما أحله الله، حتى تسلم من آفة الدنيا.