[تعلق الروح بالجسد في الدنيا]
فرحلة الروح وتعلقها بالجسد غير تعلقها بالجنين.
إذا خرج الإنسان إلى هذه الدنيا تعلقت به الروح تعلقاً جديداً يختلف عن التعلق الأول، فإذا مات الإنسان وخرجت روحه من جسده وانتقل جسده إلى عالم الآخرة نقلت روحه معه إلى عالم البرزخ، وتعلقت به تعلقاً آخر من جنس آخر، فالجسم تجده في القبر قد رَمَّ وتفتت وأكلته الأرض والروح تعذب أو تنعم.
هناك كلام لـ ابن القيم رحمه الله عجيب جداً، يقول: إن الجسد والروح الآن في الدنيا متلازمان، وأي عذاب ينال الجسد يناله بالأصالة في الدنيا وينال الروح بالتبعية.
أي: عندما تأتي الآن بشخص تدقه بإبرة في بطنه ما الذي يتألم؟ الجسد؛ لأن مراكز الإحساس في الجلد، ولكن تبعاً لتألم الجسد تتألم الروح، إذ لو لم يكن له روح وطعنته، هل يحس؟ لا.
فالآن الضربة في الجسد والألم للجسد والتبعية للروح هذا في الدنيا، أما في القبر فبالعكس: الضربة في الروح والنعيم في الروح والتبعية على الجسد حتى ولو صار عظيماً وما بقي إلا الطين لكن الروح تعذب أو تنعم، يعني: البرزخ عكس الدنيا، في الآخرة -يوم القيامة- العذاب أو النعيم يسلط على الروح والجسد سواء بسواء، ليس هناك تبعية، بالأصالة كلا الاثنين.
وأضرب لكم على هذا مثالاً ضربه ابن القيم، قال: ترى رجلين ينامان على فراش واحد، ويريا في منامهما رؤية، الأول يرى أنه يقتتل مع رجل آخر -واحد أمامه ومعه سكين وذاك معه سكين ويتطاعنون وهذا يطعن، وهذا يطعن- والثاني نائم على فراشه ويرى أنه يتزوج بامرأة جميلة، وفي آخر الليل أتى شخص يوقظهم -أيقظ هذا وأيقظ هذا- ما وقع للأجساد شيء، لكن هذا إذا قام قال: لا إله إلا الله الحمد لله يتلفت إلى جسمه فلا يجد دماً، ولا طعناً ولا أي شيء، قال: الحمد لله، الله يجزيكم خيراً عندما أيقظتموني! أعوذ بالله من هذا الحلم، ما هذه الرؤيا؟ ما هذا الحلم؟ ماذا يوجد؟! قال: أعوذ بالله، شخص طعنني وما ترك في بطني مكاناً إلا مزقه الحمد لله الذي أيقظني، تنظر في بطنه فلا يجد شيئاً، وتجد الآخر الذي رأى أنه يتزوج وأنه يأخذ واحدة جميلة؛ فإذا أيقظته من النوم، وقام وتلفت والله ما في ولا شيء لا امرأة ولا أي شيء، يقول: الله أكبر! ليتكم ما أيقظتموني، ليت النومة هذه بقيت إلى يوم القيامة، لماذا؟ سعيد! كان مع زوجة جميلة، فهو سعيد معها، لكن ليس هناك شيء، لا يوجد زوجة حقيقية للجسد، ولا سكين هنا للجسد، لكن الزوجة مع من؟ مع الروح، والحديد هنا والطعن مع من؟ مع الروح، فتألم الجسد بالتبعية، والنوم هو صورة مصغرة من الموت، فإذا مات الشخص حصل ما حصل.
ولهذا ظاهر القبور تراب وباطنها نعيم أو عذاب، ظاهرها الآن تلفت وانظر لكن بين القبر والقبر مثل ما بين السماء والأرض، هذا في روضة من رياض الجنة؛ وآخر بجواره ما بينه وبينه إلا شبر أو نصف متر في حفرة من حفر النار.
هذا ينعم وذاك يعذب، لماذا؟ بأسباب العمل، فالروح في خروجها ورحلتها إلى الآخرة لها رحلة طويلة وبعيدة، ونبدأ بأرواح الأنبياء: الأنبياء حين يحضرهم الموت، يعاملون بطريقة تختلف عن معاملة بقية البشر، فإنهم يخيرون بين أن يموتوا وبين أن يبقوا على ظهر الحياة، بعد أن يروا ما أعد الله لهم من جزيل الثواب وعظيم الأجر عنده في الآخرة، ولا يوجد على الإطلاق رسول اختار البقاء؛ لأنهم عقلاء، فكل رسول لا يخير إلا ويقول: إلى الله، يختار جوار ربه تبارك وتعالى؛ لأنهم آمنوا بقضايا الآخرة إيماناً حقيقياً لدرجة أنهم يفاضلون بينها وبين الدنيا كما يفاضلون بين العشة المتهدمة وبين العمارة العظيمة، فإذا قال لك شخص وأنت ساكن في عشة متهدمة تخرخر عليك، الحيات والعقارب في طرفها، والحمامات قذرة، والمياه فيها غير مرتبة، ويقال لك: تريد أن تقعد في العشة أو تأتي العمارة؟! في القصر العظيم فيه البساتين والحدائق، وبرك السباحة (وجراش) السيارات، والزوجات؟! ما رأيك؟! تقول: والله أريد العشة؟ أو تقول: الله يجزيكم خيراً أريد تلك، فالأنبياء عرفوا قيمة الدنيا وحقارتها، وعرفوا قيمة الآخرة؛ فهم دائماً يختارون الجنة، ولا شك أنهم يختارونها لعلمهم بها.
وقد حدث هذا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد خُير بين الموت والحياة فاختار جوار ربه، فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -يعني: قبل الموت-: لم يقبض نبيٍ قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير، تقول عائشة: فلما نُزل به -يعني: لما نزل به المرض- ورأسه على فخذي غُشي عليه صلى الله عليه وسلم ساعة -من أجل سكرات الموت- ثم أفاق فأشخص بصره إلى السماء -فوق- ثم قال: اللهم إلى الرفيق الأعلى، قالت: فقلت: إذاً لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به صلوات الله وسلامه عليه، ثم قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله: اللهم إلى الرفيق الأعلى) وجاء في إحدى روايات البخاري، قالت: (فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه يقول: وأخذته بحة وهو يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، قالت: فعلمت أنه يخير يومئذٍ) فاختار مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، جعلنا الله وإياكم منهم.