[الإيمان يقدم التفسير الصحيح للحياة]
السبب الثاني من أسباب أهمية الإيمان وضرورته: أنه يقدم لك التفسير الصحيح للحياة.
ما هي الحياة أيها الإخوة؟ اسأل نفسك: ما الحياة؟ ومن أين جئت؟ ولماذا جئت؟ وأين سوف تذهب بعد أن تموت؟ وما دورك في الحياة؟ هذه الأسئلة تتردد في ذهنك فمن يجيب عليها؟ أأنت تجيب؟ لا.
لماذا؟ لأنك لم تأت بنفسك أنت، بل إنك لا تعرف كيف خلقت، يقول الشاعر:
لا تقل كيف استوى كيف النزول أنت لا تعرف كيف أنت ولا كيف تبول
إنك لما خلقت وجيء بك إلى هذه الحياة لم يؤخذ رأيك حتى تقدم التفسير لنفسك؛ بل جيء بك رغماً عنك، ولهذا لا تعرف سر وجودك من نفسك، بل لا بد أن تعلم ذلك ممن خلقك.
كنت اليوم في مطار أبها، ونحن ننتظر إقلاع الطائرة التي تأخرت لأسباب، تأخرت قرابة أربع ساعات، فطال الوقت على الناس، وشعروا بالضيق، وكنت في زاوية من الصالة، وتجمَّع عليّ بعض الإخوة، فاستغللت الموقف وقلت لهم: ما رأيكم في هذا الانتظار؟ قالوا: صعب جداً، قلت: ما رأيكم بالانتظار يوم القيامة؟ يقف العباد يوم القيامة سبعين سنة انتظاراً لفصل القضاء، واليوم الواحد من أيام الآخرة كألف سنة: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:٤٧].
القلوب واجفة، والأبصار شاخصة، والأجسام عارية، والبطون خاوية، والرعب مجلل لأهل الموقف، يقول الله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٨ - ١٩].
فأبصارهم شاخصة في ذلك اليوم الرهيب، وهم وقوف كلهم ينتظرون فصل القضاء.
إذا حدثنا الناس عن هذا الكلام، فإنهم يفكرون بعقلية هذه الدنيا، تراهم ينظرون كيف تسير الأيام، وقالوا: اليوم الواحد مثل ألف سنة، كيف؟ اليوم عندنا على دورة الشمس والقمر، إن اليوم أربع وعشرون ساعة، نقول لهم: يا جماعة! الأمر مختلف؛ لأن عالم الآخرة غير عالم الدنيا.
إن نسبة عالم الدنيا إلى الآخرة كنسبة عالم البطن إلى الدنيا، فلو أننا جئنا بطفل يريد أن يخرج للحياة قبل خروجه بساعة أو ساعتين، وأمسكنا به وقلنا له: يا طفل! أنت سوف تخرج بعد ساعة إلى عالم فيه جبال، وأشجار، وأنهار، وبحار، وسماوات، وأرض، وطائرات، وسيارات، وملاعب، وعمارات، وشوارع، وناس يمشون ويأكلون ويشربون، ثم فكر هذا الجنين بعقلية بطن أمه، ونظر إلى الأجواء المحيطة به، ورأى الطحال أمامه، والكبد عن يساره، والرئة من هنا، والعمود الفقري بين عينيه، فماذا سيقول لنا؟ سيقول: أنتم رجعيون، عقليتكم قديمة، فأين الجبال التي تقولون؟ وأين الأنهار التي تدعون؟ ليس هناك إلا بطن أمي، لكن متى يراها؟ إذا خرج من هذا البطن ورأى العالم.
أما الذين يعيشون ويفكرون بعقلية الطفل الذي لا زال في بطن أمه، فإننا حينما نحدثهم عن الآخرة، يقولون: أين أين؟ فنقول: سترونها والله، كما قال الله عز وجل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:١ - ٨].
إن الإنسان لا يمكنه بمفرده أن يقدم لنفسه التفسير الحقيقي لهذه الحياة؛ لأنه لم يخلق الحياة ولم يخلق نفسه، ولا بد إذا أردنا العلم الصحيح عن الحياة والإنسان والكون أن نسأل خالقها، ألا وهو الله، وكيف نسأله؟ نسأله عن طريق الإيمان به، عن طريق كتابه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وبغير ذلك لا نعرف هذه الحياة، نعرف منها الظاهر فقط، نعرف الأكل، والشرب، والنوم، والنكاح، كما أن الحيوانات تعرفه، لكن هل نعرف لماذا جئنا وأين نذهب بعد الموت؟ إن قضية البعث بعد الموت قضية لازمة، مثلها مثل قضية الموت، فكما أن الله خلقنا فإنه يميتنا ويبعثنا؛ لأن الله ذكر قضيتين وجعلهما متلازمتين في القرآن: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠] هل استطاع شخص أن يخرج على قاعدة الموت؟ ويقول: أنا فلان بن فلان والله لن أموت؟ لا يستطيع أحد أن يخرج من سنة الله في الموت، ولا أن يفلت من سنة الله في البعث، لأنه قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:٣١].
فالذي يقدم لك التفسير الحقيقي لهذه الحياة هو الإيمان والدين، ويقدم لك أيضاً تفسيراً لنفسك، فيُعلمك من أنت، فأنت فيك أسرار غير الأسرار الظاهرة، بعض الناس يتصور عندما تقول له: من أنت؟ أنك تسأله عن نسبه، فيقول لك: أنا فلان بن فلان بن فلان، ومم تتكون؟ قال: أتكون من رأس، ورقبة، وجذع، وأرجل، وأيدي، وجهاز هضمي، وتنفسي، ودموي، وعقلي، وسمعي، وبصري من كل هذه الأجهزة، نقول: لا.
هذه ليست أنت، بل أنت شيء آخر، بدليل أنه إذا خرج هذا الشيء الآخر منك تذهب قيمتك.
الآن إذا مات شخص وخرجت روحه، هل يبقى لعينه قيمة؟ أو لأذنه قيمة؟ أو لرئته قيمة؟ أو لقلبه قيمة؟ أو لكليته قيمة؟ أبداً.
ولا شيء، بل الآن في عمليات زرع الأعضاء، إذا مات شخص، فإنهم يأخذون قلبه، ويضعونه في شخص آخر حي، لماذا عمل في هذا ولم يعمل في الأول؟ لأن الراكب نزل، من هو الراكب؟ أنت.
فمن أنت؟ أنت الروح.
فما الروح؟ اسأل الكافر قل له: ما الروح؟ يقول: لا أدري، نعم إن الكافر لا يدري من هو.
لكن المؤمن يعرف الروح عن طريق أمر الله؛ وقد سئل النبيُ صلى الله عليه وسلم عن الروح، فقال الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥] إذا أردت أن تعرف روحك فسر على أمر الله تعرف من أنت، إن الكافر لا يعرف من هو، ولكنه يعرف عيونه، ولهذا أبدع في طب العيون، ويعرف أذنيه، ويعرف قلبه، ولكنه لا يعرف روحه؛ لأنه لم يبذل جهداً في معرفة الروح، ومن الذي يخبره عن الروح؟ إنه الله، والإيمان به، والاستقامة عليه، والالتزام به، والرضوخ والانقياد له، فإذا عرفت هذا عرفت نفسك، أما بغير هذا فلن تعرف من أنت هذه الأهمية الثانية.