[المسار الأول: الإيمان بالله]
المسار الأول: اسمه مسار الإيمان.
المسار الثاني: اسمه مسار العمل الصالح.
ولذلك قرن الله بين المسارين في كل القرآن: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:٢٢٧] {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سبأ:٣٧] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:٢٧٧] المهم أنه لا يمكن أن تصل إلى الجنة إلا إذا سرت في المسارين، خطوة في الإيمان وخطوة في العمل الصالح، لكن إيمان بدون عمل صالح كذب وادعاء، الذي يقول: إنه مؤمن ولا يعمل عملاً صالحاً هذا مدعٍ، ما أقام على صدق دعواه وإيمانه برهاناً ودليلاً، من انقياده وطاعته لله وبعده عن معصية الله، وعمل صالح بغير إيمان لا يقبله الله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:٢٣] لا بد من اقتران الإيمان بالعمل الصالح.
وهذا الطريق طريق الإيمان واضح جداً.
أولاً: لنعتقد جازمين ومعنى: نعتقد أي: نجزم ونؤمن في أعماق نفوسنا لا في مخيلاتنا، وانتبه: الإيمان السطحي الذي لا يغير من سلوكك ولا يبلغ حد الجزم في نفسك، ولا يدخل إلى أعماق نفسك، ولا يترجم هذا إلى الانقياد والإذعان والخضوع لمولاك وخالقك، ولا تظهر منه حرارة وجدانية، والتهاب وتحرك في قلبك على دينك وعلى عقيدتك وعلى خوفك من الله، هذا ليس بإيمان، هذا يسمى فكرة أو رأياً أو أي كلام، إنما الإيمان أن يدخل قلبك، ويستقر في أعماق نفسك هذا هو المؤمن.
فلتعتقد أولاً جازمين: أن الخالق لهذا الكون ولهذا الإنسان ولكل من على وجه البسيطة هو الله الذي لا إله إلا هو، وأنه المدبر، وأنه الرازق، وأنه هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى هذه أول قضية.
ولنعتقد بعد ذلك: أنه ما دام هو الخالق لوحده فيجب أن يكون هو الآمر لوحده: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:٥٤] لا يصلح أن الله يخلق وغيره يأمر، هذا شرك لا يصح، فما دام أنه الخالق وحده فيجب أن يكون هو الآمر وحده، فإذا أمر غير الله بأمر يناقض ويصادم ويرد أمر الله، فيجب أن يرفض المسلم أمراً يتناقض مع أمر الله؛ لأنه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) فالأمر الأول والأخير لله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠].
هذه قضيتان: القضية الأولى: أن الخالق للكون وللإنسان والعوالم سفليها وعلويها، ليلها ونهارها، شمسها وقمرها، أشجارها وجبالها، أنهارها وبحارها، كل من على وجه البسيطة، هو الله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٥٠] ما من مخلوق في الكون من الذرة إلى المجرة، إلا وهو على هداية من الله، وقد درستم في العلوم: أن الذرة هي أصغر جزيء في المادة، أي: أن كل مادة من مواد هذا الكون لها ذرات، الحديد له ذرة، الألمنيوم له ذرة، البلاستيك له ذرة، الخشب له ذرة، الطين له ذرات هذه مواد، الذرة هي أصغر جزء، وما هي الذرة؟ الذرة لو أتيت بقطعة سكر وسحقتها في المهراس أو طحنتها في مكينة القهوة حتى صيرتها مثل البودرة، ثم أخذت واحدة من هذه البودرة (واحدة صغيرة ما تراها أنت) وجعلتها على رأس دبوس مثلاً وأدخلتها في المجهر (الميكروسكوب) (المجهر الإلكتروني الحديث) الذي يكبر ثلاثة ملايين مرة، يجعل من (المليمتر) ثلاثة كيلو، (المليمتر) الذي هو واحد على عشرة من (السنتيمتر) وتضع هذه الذرة ثم تنظر فيه إلى الذرة وترى في هذه الذرة عالماً، كاملاً مكوناً من حركة، فيه نواة في الوسط يسمونها النيترون، وفيه شحنة كهربائية سالبة، وفيه حول هذه النواة والنيترون إلكترونات، هذه الإلكترونات تدور باستمرار بعكس اتجاه الساعة، تدور مثل دوران المعتمر والحاج حول الكعبة.
لما تأتي لتطوف فإنك تجعل الكعبة على يسارك وتطوف، بينما الساعة تدور عكس ذلك، الآن هذه النواة تدور مثلما يدور الطائف، وكل مادة فيها إلكترونات تختلف عن المواد الأخرى، فمثلاً: الإلكترونات في الحديد ثلاثة عشر إلكترون في كل نواة، إلكترونات النحاس ستة عشر إلكتروناً في كل نواة، الإلكترونات في الألمنيوم عشرون إلكتروناً، الإلكترونات في اليورانيوم ثلاثة وخمسين إلكترون، وكلما زادت الإلكترونات في هذه الذرة كان هذا العنصر أو هذه المادة أقدر على نقل الشحنة الكهربائية، وكلما قلَّت هذه الإلكترونات كلما كانت هذه الحركة والقدرة على نقل القوة الكهربائية والشحنة الكهربائية غير قوية بمعنى: أن هناك تعادلاً كهربائياً بين الشحنة السالبة الموجودة في الإلكترونات والشحنة الموجبة الموجودة في النواة، فإذا تخلخل هذا التعادل حصل انفجار، وما تسمعون عنه الآن من تفجير الذرة، ما هو تفجير الذرة؟ تفجير الذرة هو خلخلة النظام والتعادل الكهربائي بين الإلكترونات وبين النواة، وجاءوا طبعاً بأغلى مادة يوجد فيها أكثر عدد من الإلكترونات وهي اليورانيوم، واليورانيوم معدن غالي الآن، ومنه تصنع القنبلة الذرية.
هذا اليورانيوم استطاعوا أن يشحنوا ذراته، واستطاعوا أن يفصلوا هذه الشحنات الموجودة -السالبة والموجبة- يحصل من هذا الانفصال تفجير، وبقدر قوة وعدد الإلكترونات والذرات يحصل قدرة التفجير، هذه الذرة عالم! من المجرة إلى أعلى شيء في الكون وهي المجرات التي تتكون منها المجموعات الشمسية.
كل شيء في هذا الكون خلقه الله وأعطاه الهداية، وأعطاه القدرة على أن يسير في الخط الذي رسمه له الله، ولا تتصوروا أن الحيوانات والطيور والحشرات تعيش هكذا من غير نظام لا.
هذه عوالم لها أنظمة لها سنن لها قوانين لها أحكام لها شرائع تعرفون وتسمعون النملة التي مر عليها سليمان ودخل وادي النمل: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} [النمل:١٨] واحدة من النمل رأت الوفد والموكب آتياً، فخشيت أن يتعرض هذا الخلق للإبادة؛ نظراً لأنه لم يعد يراهم، أنت عندما تمشي في الطريق لا تنظر في الأرض حتى ترى النمل الصغير، فلما رأته قامت هي ونادت وقالت: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:١٨].
يقول المفسرون: إنها نادت وأمرت ونهت وحذرت واعتذرت فنادت قالت: (يا أيها النمل) وأمرت: (ادخلوا مساكنكم) ونهت وحذرت فقالت: (لا يحطمنكم سليمان وجنوده) واعتذرت، قالت: (وهم لا يشعرون) لا يدرون، لا يرونكم! هذه هل عندها عقل أم ليس عندها عقل؟! عندها عقل.
يذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب له اسمه " مفتاح دار السعادة " يقول: إن رجلاً كان في سفر، وفي الطريق مر على شجرة، فجلس تحتها يستظل، وبينما هو مستظل إذا بمجموعة وقوافل من النمل تمشي، يقول: ونملة من النمل خرجت من السير ورأت لها رجل جرادة فأرادت أن تحمله ليكون لهم غذاء، يمكن أن يعيش عليه النمل شهراً، فحاولت حمله من كل جانب فلم تستطع، فتركته ورجعت إلى الخط العام، وأمسكت لها ست نمل من جماعتها، فأخبرتهن فجئن إليها.
يقول: لما رأى الست نملات قام وحمل رجل الجرادة، وفي المنطقة نفسها بحثت النمل فلم تجد رجل الجرادة؛ فاعتذرت منهن وودعتهن فرجعن، ولما دخلت النمل في الخط العام رجعت في رحلتها فوضع الرجل في مكانها؛ فلما جاءت ورأتها رجعت بسرعة لتستدعي النمل، فقالت: ارجعوا! فرجع النمل فقام هذا الإنسان وأخذ رجل الجرادة (منكد هذا الإنسان!) ينكد على هذه الضعيفة، فاعتذرت منهن، وقالت: الحقيقة أنا وجدتها لكن لا أدري أين ذهبت! فسامحنها في المرة الثانية ورجعن، ولما رجعت وضعها مرة ثالثة، فلما رأتها جاءت مسرعة جداً ودعت الست نملات، فرجعن معها ولكنه أخذها للمرة الثالثة، فلما أتت النمل في المرة الثالثة ولم تجدها مباشرة أحطن وأمسكن بها انتهى الأمر مقبوض عليها! هذه كذابة! هذه تقدم معلومات غير صحيحة وغير دقيقة تكذب على الأمة! فما الذي حصل؟ أخذتها مجموعة النمل حتى أتت إلى الخط العام، فوقفت على الخط وأعلنت حالة تنفيذ حكم واحد على هذه الكذابة، وقام النمل كله وتجمع من أول الطريق ومن آخر الطريق وعمل دائرة وأخذوها ووضعوها في الوسط ثم انقضوا عليها من كل جانب وقطعوها قطعة قطعة هذا نظام أم ليس بنظام؟! عالم النحل -تعرفون النحل- كيف هذا العالم الدقيق؟ كل مخلوق وكل موجود من الذرة إلى المجرة، كله يمشي وفق الاتجاه الذي خلقه له الله تعالى من أجله، فيجب أن تعتقد أنت عقيدة جازمة، أن الله هو خالق كل شيء؛ لأن الله يقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:٦٢] متصرف، مالك الملك، مالك كل شيء، له الأمر -تبارك وتعالى- من قبل ومن بعد هذه الأولى.
الثانية: أن تعتقد أنه ما دام أنه الخالق لوحده، فيجب أن يكون هو الآمر لوحده ولا ينازع في أمره.
الثالثة: أن حكمة الله عز وجل اقتضت إرسال الرسل لبيان مراد الله، فقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥].
فاقتضت حكمة الله أن يرسل الرسل، وأن ينزل عليهم الكتب، من أجل بيان الطريق إلى الله تبارك وتعالى، وهذا الطريق بدأه من الأنبياء نوح عليه السلام، وختم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم ختم بالكتاب الكريم المهيمن وهو القرآن العظيم الذي فيه كل شيء: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:٣٨].
وتضمن الكتاب الكريم الشريعة والعقيدة، وتضمن الإيمان كله مع أركانه: الإيمان بالله الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل الإيمان بالملائكة الإيمان بالبعث بعد الموت الإيمان بالقدر خيره وشره من الله عز وجل الإيمان بالجنة الإيمان بالنار الإيمان بالحوض الإيمان بالصراط الإيمان بالميزان الإيمان بالقبر الإيمان بكل المغيبات التي أخبر بها