للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية رمضان وفضل العبادة فيه]

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مرحباً بكم -أيها الإخوة- في هذه الليلة النورانية، التي اجتمعت فيها الأنوار من كل جانب؛ أنوار الصيام، وأنوار التراويح والقيام، وأنوار القنوت والبكاء من خشية الملك الديان، وأنوار القرآن، وأنوار بيوت الرحمن: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٣٥].

اللهم اجعل لنا من هذا النور أوفر الحظ والنصيب، واجعل لنا من هذا النور نوراً في قلوبنا، ونوراً في أبصارنا، ونوراً في أسماعنا، ونوراً في ألسنتنا، ونوراً عن أيماننا وعن شمائلنا، ومن أمامنا ومن خلفنا، ومن فوقنا ومن تحتنا، اللهم أعظم لنا نوراً واجعل النور بين أيدينا مع الذين قلت فيهم: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الحديد:١٢] اللهم اجعل لنا هذا النور في الدنيا والآخرة.

أيها الإخوة: هذه الأنوار لها دلائل وعليها براهين، ستبقى صلاتنا وتراويحنا وقيامنا وتلاوتنا بل وحتى بكاؤنا ستبقى عرائس من الزهور، حتى إذا أكدناها وصدقناها بأعمالنا وتصرفاتنا دبت فيها الأنوار؛ لأن من الناس من يقول: أنا أحضر إلى المسجد ولا أبكي، نقول له: كيف أنت إذا نظرت إلى الحرام؟ هل تغض بصرك؟! كيف أنت إذا استمعت إلى الحرام؟ هل تصون سمعك؟! كيف أنت إذا سمعت الناس يخوضون؟ هل تكف لسانك؟! كيف أنت مع الزنا؟! كيف أنت مع اللواط؟! كيف أنت مع الغناء؟! كيف أنت مع الربا؟! كيف أنت مع كل المحرمات؟! كيف أنت مع الطاعات؟! فإن كان كما يرضي الله على الهدي الصحيح؛ على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كان هو المؤمن الحق، أما إذا بكى هنا، فإذا لاحت له معصية وقع فيها، يبارز الله بالعظائم، ويستخفي من الناس، ولا يستخفي من الله فهذا يقول الله فيه وفي أمثاله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:٢٣] عمل أجوف لا روح فيه، صورة شكل لا معنى لها، إن الحقيقة هي في السلوك، والعمل، والتطبيق، والمراقبة، والخشية، والشعور بالمراقبة الربانية لك -أيها المؤمن- في الليل والنهار، في السر والجهار، وقد ذكر أئمة الحديث حديثاً صحيحاً عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأقوامٍ يوم القيامة لهم حسنات كأمثال جبال تهامة فيقول الله لها: صيري هباءً فقال الصحابة: لم يا رسول الله؟! قال: كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) هذه مشكلتهم؛ أنهم في الخلوة يجترئون على معصية الله، وبين الناس ربما يتظاهرون بخشية الله، وهي علامة النور الصوري؛ لأنه ينفع مع الناس، ولكنه مع الله ينطفئ، أما النور الحقيقي فإنه مع الناس ومع الله يزداد، إذا لم يكن هناك أحد يراك إلا الله فإنك تشعر بعظم المراقبة.

وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان

فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني

إذا غابت عنك أعين الناس فإن عين الله لا تغيب عنك أبداً: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:٣٢].

أيها الإخوة في الله: هذه الأنوار وهذه الليالي الرمضانية الإيمانية، ما أعظم وما أجمل أن يقضيها المؤمن في رحاب الله، ومع كلام الله، ومع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وشهر رمضان شهر الذكريات، شهر المعاني والإيحاءات، شهر الخيرات والبركات، شهر الفوز والمكرمات، يفرح به المؤمن، ويتمنى لو كان الزمان كله رمضان، يفرح حين مقدمه، ويعيش أعظم ساعاته في شهر رمضان، ثم إذا ولى رمضان يبكي عليه حزناً وشوقاً، فقد كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فإذا انتهى رمضان دعوا الله ستة أشهر أن يتقبل منهم ما عملوه من حسنات في رمضان.

رمضان

أيا شهر الصيام فدتك نفسي تمهل بالرحيل والانتقال

فلا أدري إذا ما عدت يوماً على هذي الحياة بخير حال

أتلقاني مع الأحياء حياً أو انك تلقني في اللحد بالِ

رمضان

يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبٍ حتى عصى ربه في شهر شعبان

ها قد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان

اتلُ الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيحٍ وقرآن

كم كنت تعرف ممَّن صام من سلفٍ من خير أهلٍ وجيرانٍ وإخوان

أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً فما أقرب القاصي من الداني

ومعجب بثياب العيد يقطعها فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان

حتى متى يعمر الإنسان مسكنه مصير مسكنه قبر لإنسانِ

هذا الشهر الكريم من أجلِّ العبادات ومن أزكى القربات، فرضه الله بصيغة الكتابة، ثلاثة أشياء في القرآن والأوامر الربانية جاءت بصيغة الكتابة، وكأنها صكوك ربانية لا تقبل النسخ، ولا التبديل، ولا الاستثناء؛ ثلاثة أمور صعبة على النفس: الأمر الأول: الصيام: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:١٨٣].

الأمر الثاني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:١٧٨].

الأمر الثالث: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:٢١٦].

ثلاثة أمور: صيام، وقصاص، وقتال.

يقول العلماء: إن جعل الصوم مع القتل والقصاص مشعر بأهمية الصوم وعظمته، وأنه لا يقبله ولا يتحمله ولا يرضخ له ولا يحبه إلا المؤمن، ولهذا خاطب الله أهل الإيمان بهذه الصفة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ} [البقرة:١٧٨] أي: فرض وأوجب وألزمتم به {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:١٧٨] وحتى لا يقول أحد: لماذا يا رب! نحن دون بقية الناس؟ قال: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:١٧٨] أي: ليس الصيام أمراً بدعاً في حياة الأمم والشرائع، لا، إنه سنة الله، إنه دين الله الذي لا يتبدل في جميع الديانات والرسالات؛ فما من نبيٍ بعث، وما من شريعة نزلت، وما من كتابٍِ نزل إلا وفيه الأمر بالصيام، كما فيه الأمر بالصلاة وبالتوحيد، ولكن تختلف الشرائع، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:٤٨] كان صوم الأولين أنهم يمسكون عن الطعام والشراب والكلام، حتى الذي يتكلم كلمة يفطر ويقضي اليوم، بكلمة واحدة! ولهذا لما جاءت مريم بولدها عيسى عليهما السلام، قالت: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:٢٦] وذلك عندما قيل لها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:٢٨] فأشارت إليه لم تتكلم، قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم:٢٩] فتكلم هو وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:٣٠ - ٣١].

كل شريعة سبقت نزل فيها الأمر بالصوم، ولهذا عزانا الله وقال: الأمر لا يخصكم فقط بل إنه يخص كل الأمم: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:١٨٣].