[أثر الهداية في النجاة من عذاب الله ودخول الجنة]
نعمة الهداية -أيها الإخوة- نعمة عظيمة جداً، وجديرة والله بكل اهتمام، ويكفينا أنك بالهداية تنجو من عذاب الله في النار، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٤ - ٧٧] هذه هي أمنيتهم! يقولون: نريد الموت! فلا يريدون الفكاك؛ لأنهم يعلمون أن الفكاك ممنوع، فقالوا: نريد الموت {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:٧٧] لماذا ماكثون؟ قال: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} [الزخرف:٧٨] أي: القرآن والدين والهداية الربانية {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:٧٨ - ٨٠] كانوا تاركين مضيعين؟ ولم يعلموا أن سرهم ونجواهم فضلاً عن أن ظاهرهم مسجل عند الله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:٨٠].
فكل شيء مسجل عليك: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٩] {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:١٤] {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:٤٩] {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:١٥ - ١٧].
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:١٩] أي: أن الثياب هناك من النار، وليست كثياب الدنيا، بل من النار، فتصور كيف تكون حالتك! {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:١٩ - ٢١] إذا أعيوا من العذاب جيء بالمقامع: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:٢٢].
إخواني! من نار جهنم وما فيها من العذاب والأنكال؟! أما تعتبرون بهذه الأحوال؟! أما تحذرون من سلاسلها والأغلال؟! فواعجباً والله لمن يقرع سمعه ذكر السعير وهو بالله من عذابها غير مستجير! أفيك جَلَدٌ على الحميم والصديد والزمهرير؟! أفيك جَلَد على نار وقودها الناس والحجارة، أم قد رضيت لنفسك بهذه الخسارة؟! فيا ويح من كانت هذه الدار داره! ألا إنها نار وقودها الناس والحجارة!
والنار منزل أهل الكفر كلهم طِبَاقُها سبعة مسودة الحفر
جهنم ولظى من بعدها حطمة ثم السعير وكل الهول في سقر
وبعد ذاك جحيم ثم هاوية تهوي بهم أبداً في حر مستعر
فيها غلاظ شداد من ملائكة قلوبهم شدة أقسى من الحجر
لهم مقامع للتعذيب مرصدة وكل كسر لديهم غير منجبر
سوداء موحشة شعثاء مظلمة دهماء محرقة لواحة البشر
فيها العقارب والحيات قد جمعت جلودها كالبغال الدهر والحمر
لها إذا ما غلت زور يقلبهم ما بين مرتفع منها ومنحدر
فيا إخواني! انجوا بأنفسكم من عذاب الله! فوالله الذي لا إله إلا هو، ألا نجاة في هذه الدار ولا فوز في دار القرار إلا بطاعة الله، والتمسك بهدي رسول الله والسير على دين الله.
فإذا فعلنا ذلك أيها الإخوة! وتمسكنا بالدين، وعملنا العمل الصالح، ماذا سيكون جزاؤنا؟ ما هو الجزاء أيها الإخوة؟ هل هي وظيفة كما نشتغل الآن؟ إن هؤلاء الطلاب الذين ترونهم أيام الامتحانات لا يذوقون الطعام، ولا يهنأون بالمنام، ويجلسون في المساجد والطرقات وعلى الشوارع وهم يقرءون الكتب بالليل والنهار من أجل أن ينجحوا -وهذا حسن- لكن ماذا عملوا للآخرة؟! ماذا عملوا للجنة؟! إن الجنة -أيها الإخوة- سببها الهداية والعمل الصالح، والتوفيق من الله الذي لا إله إلا هو.
إن الجنة ريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مضطرد، وثمرة ناضجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام أبدي في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، ومحلة عالية بهية، أرضها وترابها المسك والزعفران، وسقفها عرش الرحمن، وملاطها المسك الأذخر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، ثمارها ألين من الزبد وأحلى من العسل، وأنهارها من خمر لذة للشاربين، ومن ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن عسل مصفى، وفاكهتها مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، غلمانها وخدمها ولدان مخلدون، كأنهم لؤلؤ مكنون، واسمع لزوجاتها يا من تريد الزوجات:
فكن أيماً لما سواها فإنها لمثلك في جنات عدن تأيم
وكن مبغضاً للخائنات بحبها لتحظى بها من دونهن وتسلم
فيا خاطب الحسناء إن كنت راغباً فهذا زمان المهر والمقدم
يا من تحبون النساء، يا من تريدون الجمال والعفة والشوق والحب العظيم، أخروه إلى أن تتزوجوا بالحلال، ثم التزموا لتجدوا الكواعب والأتراب في جنات رب العالمين.
زوجاتها الكواعب الأتراب، اللاتي جرى فيهن ماء الشباب، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا ضحكت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً، ولاستنطقت أفواه الخلائق تهليلاً وتكبيراً وتسبيحاً، إذا رأوها قالوا: لا إله إلا الله! من عظمة هذه المرأة الحورية، ولتزخرف لها ما بين الخافقين، ولأغمضت عن غيرها كل عين، -أي: خمارها- نصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها، لا تزداد بطول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً.
فليست نساء الآخرة كنساء الدنيا، نساء الدنيا تكون معها مدة تُسمى شهر العسل، وبعد ذلك تتحول الدنيا إلى بصل، ثم ولادة وحمل ونفاس وأطفال ومشاكل، لكن هذه لا.
لا تزداد مع طول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً، ولا يزيد طول المدى معها إلا محبة ووصالاً، مبرأة من الحبل والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من البول والغائط وسائر الأدناس، لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، ولا يخلق ثوب جمالها، ولا يمل طيب وصالها، لم يطمثها قبله إنس ولا جان، كلما نظر إليها ملأت قلبه نوراً، وكلما حادثته -أي: كلمته- ملأت أذنه لؤلؤاً منظوماً ومنثوراً، إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها، وإذا انتقلت من غرفة إلى غرفة أو من قصر إلى قصر، فكأنما هذه الشمس تنقلت في بروج فلكها.
هذا وأعظم نعمة يمن الله بها على أهل الجنة: أن الله عز وجل يحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبداً، ويحادثهم ويتجلى لهم، ويرونه من فوقهم سبحانه، فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا قرة العيون بالنظر إلى وجه الله بالدار الآخرة، ويا خيبة العصاة المحرومين الراجعين بالصفقة الخاسرة.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٥].
فاسمع إذاً أوصافها وصفاتها:
تيك المنازل ربة الإحسان
هي جنة طابت وطاب نعيمها فنعيمها باق وليس بفان
أو ما سمعت بأنه سبحانه حقاً يكلم حزبه بجنان
ويرونه سبحانه من فوقهم نظر العيان كما يُرى القمران
ولهم منابر لؤلؤ وزبرجد ومنابر الياقوت والمرجان
هذا وخاتمة النعيم نعيمهم أبداً بدار الخلد والرضوان
فنسأل الله وإياكم من فضله، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، يا حي يا قيوم، يا فارج الهم، يا كاشف الغم، يا أرحم الراحمين، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تجعلنا وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع المسلمين من أهل هذه الدار، وأن تنجينا من دار الخزي والبوار برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذه أيها الإخوة! آثار الهداية، فإذا بقي أحد يقول: لا أريد الهداية! عندها نقول له: جعلك الله لا تريد، أبعدما رأيت الطريق لا تريد؟! فقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:١٢٧] ويقول: {ومَنْ كَفَر فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [لقمان:٢٣] ويقول: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:٢٥ - ٢٦] وكانت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم تتقطع وتذوب ألماً وحزناً حينما يُكذَّب وهو صادق، فقال الله له: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:٨] أي: اتركهم وما عليك إلا أن تبين لهم الطريق: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْ