بدأ ربنا تبارك وتعالى في جولة أرضية وجولة سماوية بالتقرير على مبدأ البعث فقال تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً}[النبأ:٦] ألم نمهدها ونهيئها من أجل استقبالكم للعيش عليها ولبلوغكم سن التكليف، ثم بلوغكم آيات الشرع وأحكام الشرع، ثم قيام الحجة عليكم؟: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً}[النبأ:٦ - ١٠] وليس هذا وقت تفسير لبعض هذه الآيات وأسرارها، لكني أوردتها للدلالة على أمر البعث وأنه كائن لا محالة، ثم بعد ذلك قال عز وجل:{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً}[النبأ:١٣] بعد الجولة الأرضية جولة في الملأ الأعلى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً}[النبأ:١٤] المعصرات: أي: السحب {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً}[النبأ:١٥ - ١٦] كل هذا لماذا؟ {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً}[النبأ:١٧] عملنا هذا من أجل يوم الفصل فإنه كان ميقاتاً مضروباً، وموعداً معلوماً لفصل القضاء، وسمي يوم الفصل لأنه يفصل بين الخلائق، يفصل بينهم ويقسمون إلى فريقين: فريق: أهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- إلى الجنة، وفريق: أهل الكفر والمعاصي والنفاق -نعوذ بالله جميعاً منهم- إلى النار.
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً}[النبأ:١٧] وكأن قائلاً يقول: يا ربِّ متى هذا اليوم؟: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً}[النبأ:١٨] لا يستطيع أن يتخلف أحد عن هذا المجيء؛ لأن الله يقول:{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:١٨] لا يخفى من الناس أحد على الله عز وجل، يحضرون كلهم من آدم إلى آخر واحد يموت:{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً}[النبأ:١٨ - ١٩] لنزول الملائكة: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً}[النبأ:٢٠ - ٢٢] الطاغين: أهل الطغيان الذين طغوا وبغوا وتجاوزا الحدود، طغوا على أوامر الله، وطغوا على عباد الله، وطغوا على أنفسهم؛ لأن الطغيان ضلال وهلاك في الدنيا والآخرة، {لِلطَّاغِينَ مَآباً} ومصيراً: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً}[النبأ:٢٣ - ٢٥] وانظرا إلى التعبير بالحميم بعد البرد، قال الله {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً}[النبأ:٢٤] يقول العلماء: (برداً) يحمل معنيين: نوماً، وقيل شراباً بارداً؛ ولكن ليس شراباً ولا برداً {إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً}[النبأ:٢٥] والحميم هو الماء الذي بلغت درجة غليانه أقصى درجة، وتصور أنك عندما تكون وعطشان في مدينة من المدن الحارة ثم قدم لك ماء يفور فتشربه فيزيدك ناراً، لكن لو قدم لك ماء بارداً يبرد جوفك لكان ذلك حسناً، ولهذا يطلب أهل النار من أهل الجنة:{أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}[الأعراف:٥٠].
أمر البعث أيها الإخوة! شيء لا محالة من وقوعه، وله علامات، وقد ذكرنا في الماضي بعض العلامات وسوف نختم هذه الليلة ذكرها، وذكرنا في الأسبوع الماضي في خميس مشيط اثنتين من علامات الساعة الكبرى التي تأتي قبل حدوث الساعة مباشرةً، يسمونها الآيات العشر العظام، التي إذا وقعت فلن يكون هناك شيء إلا الساعة بعدها، وإذا وقعت الأولى تتابعت كنظام، أي: كمسبحة أو عقد انقطع فتتابعت خرزاته.