[الأدلة على أن للعبد قصد وإرادة]
هنا بيت القصيد، وأرجو التركيز عليه، مع كل ما سبق نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختياراً وقدرةً يفعل ما يختاره، والأدلة على أن فعل العبد باختياره وقدرته كثيرة منها: الدليل الأول: قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:٢٢٣] أي: كيفما أردتم، ولكن في موطن الحرث: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:٢٢٣] يعني: يجوز للرجل أن يباشر زوجته كيفما يريد، ولكن في موطن الحرث، في القبل، أما إن باشر في الدبر فقد وقع في لعنة الله، وقوله عز وجل: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:٤٦] فأثبت للعبد إتياناً بمشيئةٍ وإعداداً بإرادة.
الدليل الثاني: من الأمور التي نستدل بها على أن للعبد إرادة ومشيئة أنه موجهٌ إليه أمرٌ ونهي من الله عز وجل، ولو لم يكن له اختيار وقدرة لكان توجيه ذلك من التكليف بما لا يطاق، وهو أمر تأباه حكمة الله عز وجل، ورحمته، وخبره الصادق إذ قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] فما دام أن العبد مأمور ومنهي، فهذا يقتضي أن يكون عنده قدرة على أن يأتي بالمأمور به وأن يترك المنهي عنه، ولو لم يكن له قدرة على أن يأتي بالمأمور به ويترك المنهي عنه لكان الأمر والنهي في حقه تكليفاً، والله قد قدّر التكاليف.
الدليل الثالث: مدح الله المحسن على إحسانه، وذم المسيء على إساءته، وأثابه بما يستحق، ولولا أن الفعل يقع بإرادة العبد واختياره لكان مدح المحسن عبثاً، فكيف تمدحه على شيء لم يعمله باختيار وإرادة؛ ولكانت عقوبة المسيء ظلم، والله منزه عن العبث والظلم.
الآن لو جاءت الشرطة والمرور وأقفلت الشارع في مكان معين -فالشارع فيه اتجاه للذهاب واتجاه للإياب- فإن جاءت الشرطة، وقالوا: يمنع السير إلا في اتجاه واحد، والاتجاه الآخر مغلق، فسيضطر السائقون إلى السير في اتجاه واحد؛ لأن الأمر بيد المرور، لكن إذا جاءت الشرطة ومنعوا السيارات من العبور وقالوا: إن هذا يخالف قوانين السير، ومن يفعل ذلك يعاقب، فسيقول السائقون: إن المرور هو الذي أجبرنا على ذلك، فكيف نعاقب! ولو صدر هذا الأمر من مدير المرور فماذا يسميه الناس؟ يقولون: إن مدير المرور مجنون، ثم يأتي كبار المسئولين يقولون لمدير المرور: كيف تكلف الناس بأمر وتجبرهم عليه ثم تجازيهم؟ فهذا لا يليق بالإنسان، فكيف يليق بالله أن يخلق الإنسان مجبولاً على المعاصي ويجازيه ويدخله النار؟! فمدح الله للمحسنين وذمه للمسيئين يدل على أن الفعل يقع باختيارهم وإرادتهم.
الدليل الرابع: أن الله تعالى أرسل الرسل: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥] فلم تعد هناك حجة على الله، ولولا أن فعل العبد يقع بإرادته واختياره لما بطلت الحجة في إرسال الرسل؛ لأنك لو أرسلت رسولاً والإنسان ليس له اختيار، فبماذا ينفع الرسول وهذا العبد ليس له اختيار؟ فلا تقوم الحجة ولا تبطل المعذرة إلا بالاختيار من جانب العبد.
الدليل الخامس: إننا نحن المكلفون العقلاء نشعر أننا قادرون على أن نفعل الشيء أو أن نتركه بغير إكراه من أحد.
فالآن حين أذن المؤذن وكنتم في بيوتكم فخرجتم تصلون، فهل أخرجكم أحد رغماً عنكم لتصلوا؟ لا.
وإنما خرجتم باختياركم.
وهل كل من في المنطقة يصلون في المسجد؟ لا، فلو فتشنا البيوت لوجدنا مثل هذا العدد مرتين، فهل جلس أولئك باختيارهم وصليتم أنتم باختياركم؟ هل أجلسهم أحد في البيوت بالقوة كي لا يصلوا؟ وهل ساقكم أحد بالعصا إلى المسجد لتصلوا؟ لا.
ففعلكم للصلاة باختياركم، وفعلهم لترك الصلاة باختيارهم.
كما أن الإنسان يقوم ويقعد، وينام ويرقد، ويدخل ويخرج، ويسافر ويقيم بمحض إرادته، ولا يشعر بأن أحداً أكرهه، بل يفرق تفريقاً واقعياً بين أن يفعل الشيء باختياره وبين أن يكره على فعله.
كذلك الدين فرق بين أن يفعل الإنسان شيئاً باختياره أو بين أن يفعل شيئاً مكرهاً عليه، فإذا أكره على شيء من أعمال السوء حتى ولو كان كفراً لم يكفر، ولهذا يقول الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦] وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر رضي الله عنه عندما أمسكه كفار قريش، وقالوا: (لا نتركك حتى تسب محمداً صلى الله عليه وسلم -وهو يعرف أن سب الرسول كفر- فسب الرسول صلى الله عليه وسلم فتركوه، فجاء إلى الرسول وهو خائف -الإيمان في قلبه ولكنهم أرغموه على شيء لا يعتقده- فقال: يا رسول الله! والله ما تركوني حتى نلت منك، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، قال: فإن عادوا فعد) قال: إذا أمسكوك ثانية وقالوا: عد لما فعلت، فعد.
فالمهم ما سكن في القلب.
فانظروا إلى سماحة الدين، إذا عملت الكفر وأنت مكره عليه فليس عليك شيء، لماذا؟ لأنه ما كان لك اختيار في هذا، لكن إذا كنت تملك الاختيار وتعمل الكفر، فإنك قد عملته دون إكراه واضطرار، فتجازى على ذلك.