للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نعمة الهداية]

أيها الإخوة في الله: إن نعمة الهداية نعمة لا تعدلها نعمة، نعمة تلحقك آثارها في هذه الدنيا فتعيش سعيداً، إذ لا سعادة بغير هداية: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:١٢] {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:٣٦ - ٣٧] {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:٢٨ - ٢٩].

إن نعمة الهداية تلحقك آثارها في الساعات الحرجة، واللحظات الصعبة حينما تزول الحجب وتنكشف الحقائق وتبدو الأمور على وضعها الطبيعي، دنيا زائلة شباب فاني حياة منتهية آخرة مقبلة ملائكة نازلة وملك الموت موكل بقبض روحك ونقلك من هذا الدار إلى الدار الآخرة، هنالك تنفعك نعمة الهداية، فيثبتك الله بالإيمان: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:٣٠] هذا الكلام عند الموت، أي: لا تخافوا مما أمامكم ولا تحزنوا على من خلفكم، فهناك اطمئنان على المستقبل والماضي والحاضر، فالمستقبل لا تخافوا منه، والماضي لا تحزنوا عليه، والحاضر: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:٣٠] لماذا؟ قالوا: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} [فصلت:٣١] لأنكم كنتم أولياء الله في الدنيا، فنحن أولياؤكم في الدنيا والآخرة: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣١ - ٣٢].

إن نعمة الهداية تنفعك في القبر المظلم الموحش، في القبر الذي نحن اليوم في غفلة عنه، نسكن القصور وننسى القبور، نعيش في النور وننسى ظلمات القبور، نرقد على الأسرة والفرش وفي غرف النوم الطويلة العريضة وننسى اللحد وظلمته، والقبر وضغطته، والسؤال وشدته، في تلك اللحظات تأتيك نعمة الهداية، ويلقنك الله عز وجل حجتك ويثبتك؛ لأنك كنت في الدنيا ثابتاً غير متزعزع أو متذبذب أو متلون، وإنما ثابت ثبوت الجبال الشوامخ، ثابت على دين الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:٢٧].

إذاً: من ثبت هنا ثبَّته الله في القبر، وعلى الصراط، وفي عرصات القيامة، حتى يدخله الله دار الثابتين -جعلنا الله وإياكم منهم- ومن زاغ هنا وانحرف، انحرف في القبر، وعند الموت، وعلى الصراط، وفي العرصات، حتى يدخل دار المنحرفين، أجارنا الله وإياكم منها.

وفي القبر لن تنطق الشهادات ولا المناصب ولا الكراسي الدوارة، ولا العمارات والبنوك والمؤسسات، ولا العضلات، ولكن تنطق فقط القلوب المؤمنة المهتدية التي عرفت الله في هذه الدنيا.

وفي عرصات القيامة مروراً بالجسر الرهيب المضروب على متن جهنم الجسر العظيم الذي جاءت مواصفاته في الأحاديث الصحيحة بأنه: أدق من الشعر، وأحد من السيف، وأحر من الجمر، وأروغ من الثعلب، والناس مأمورون كلهم بالسير عليه، إذ لا وصول إلى الجنة إلا من خلاله، ووسائل النقل ووسائل العبور هي العمل الصالح، فمن جاء بوسيلة نقل جيدة عبر، ومن جاء بغير وسيلة نقل خسر وهوى في النار.

إن نعمة الهداية تجعلك تعبر الصراط، قيل لبعض السلف وقد رُؤي في منامٍ: ما صنع الله بك؟ قال: وضعت قدمي الأولى على الصراط والثانية في الجنة.

أي: أنه ليس هناك تأخر أبداً، ولعله لم يكن لديه في الدنيا شيء سوى الإيمان والعمل الصالح، فترى في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بأسباب نعمة الهداية.

إذاً نعمة الهداية عظيمة، نعمة لا تعدلها نعمة، والنعم كلها من الله، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:٣٤] ويقول: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:٥٣].

نعمة المال والولد والزوجات والمناصب والرتب، والعافية والصحة، والأرزاق والأمن، كل هذه نعم، نحمد الله الذي لا إله إلا هو عليها، ونسأله المزيد من فضله، لكنها نعم مؤقتة، فهي تنفعك إذا كنت حياً، لكن إذا خرجت من الدنيا فليس معك شيء من ذلك، وهناك فقط نعمة واحدة هي التي تنفعك هنا وهناك، والعقل يفرض عليك إذا كنت عاقلاً، أن تهتم بالنعمة التي تنفعك في الدنيا، وعند الموت، وفي القبر، وعلى الصراط، وتنفعك وبالعرصات وإلى أن تدخل الجنة؛ فعليك أن تعطي للنعم الأخرى بقدر ما تنفعك.