[ضرب الأمثال على حقيقة الدنيا]
هذه الدنيا بخمسها: لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد، حسناً ما مثلها يا رب؟! لأن الأمثال تقرب المعاني، والله قد ضرب في القرآن بالأمثال العديدة وقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:٢١] وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:٤٣] ودائماً المثل هو وسيلة إيضاح تقرب المعنى وتفهمه وتدخله في الأدمغة، فهذه الدنيا كما قال قال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:٢٠] ما مثلها؟ قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} [الحديد:٢٠] الغيث: النبات الذي يأتي في أول الزرع الأخضر الجميل، الذي منظره جميل وملبسه جميل وشكله جميل إذا هبت عليه الريح تراه يميل مع الريح ثم ترده الريح، وإذا أسقيته يميل، يعني منظر جميل، فهذه الدنيا {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:٢٠] الكفار هنا: يعني الزراع، ليس هم كفار بالمعنى الشرعي بل بالمعنى اللغوي؛ لأن الكفر بالشيء تغطية الشيء، وسمي الكافر كافراً؛ لأنه يغطي نعم الله ويغطي حقائق الإيمان ويخادع نفسه، والزارع يسمى كافراً في اللغة وليس كافراً في الشرع، لا.
هو مؤمن، لكنه يضع الحب في الأرض ويغطيه فقال الله: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:٢٠] هذه الدنيا أولها {ثُمَّ يَهِيجُ} [الزمر:٢١] يكبر {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} [الزمر:٢١] هذه هي المرحلة الثانية من الدنيا {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:٢٠] يجبس ويتحطم ويسقط.
يقول ابن خلدون في مقدمته: يذكر أن مراحل الحياة ثلاث مراحل: مرحلة الشباب، ومرحلة الأشد، ومرحلة الشيخوخة والكهولة، فمرحلة الشباب تبدأ من أول العمر إلى العشرين، والإنسان ينمو في هذه الفترة نمواً متعادلاً جسدياً وعقلياً، ينمو عقله وينمو جسده سواء، في توافق زمني بحيث لا يسبق عقله جسده ولا يسبق جسده عقله، يسمونه العمر الزمني أو العمر العقلي في التربية، إلى العشرين، وفي العشرين يقف نموه الجسدي، طول ثوبك وأنت ابن عشرين هو طول ثوبك إلى أن تموت، هل هناك أحد يزيد طوله بعد العشرين؟ يمكن يتوسع لكن بحسب العوامل الأكلية، إنما يطول، لا.
ثوبه وهو ابن عشرين هو ثوبه إلى أن يموت، بعد العشرين يتوقف النمو الجسدي ويستمر النمو العقلي إلى الأربعين يكتمل النمو العقلي، والذي عقله وهو ابن أربعين ليس مثل عقل ابن عشرين، عقل ابن عشرين فيه طيش، فيه حماس، فيه تسرع، فيه غضب، لكن ابن الأربعين، لا.
فيه انضباط، فيه تعقل، وتوازن، واعتدال يزن الأمور بموازينها، يقيس النتائج على مقدماتها، بعد ذلك يقيس المقدمات على نتائجها، ينظر من منظار أوسع، ولذا ما بعث الله نبياً إلا في الأربعين، قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:١٥] فعند الأربعين يكتمل أشد الإنسان ويكتمل عقله، فلا يزيد عقل الإنسان بعد الأربعين، ولهذا الذي لم يعقل قبل الأربعين لن يعقل بعدها، وورد في بعض الآثار: [إذا بلغ الإنسان الأربعين من عمره ولم يغلب خيره على شره قبله الشيطان بين عينيه، وقال: فديت وجهاً لا يفلح أبداً] وقال في الأثر الآخر: (إذا بلغ الإنسان الأربعين من عمره ولم يغلب خيره على شره فقد تجهز إلى النار) أي: حجز وقطع تذكرة إلى النار إلى جهنم؛ لأنه مدة أربعين سنة وهو مع إبليس متى سيعود إلى الله؟ لا إله إلا الله! يقول العلماء: بعد الأربعين تنعكس المسألة، يستقر النمو العقلي ويبدأ النمو الجسدي بالنزول، من الأربعين إلى الستين تنزل قدرتك الإنسانية، عينك التي كانت حديدية ترى البعيد أصبحت ضعيفة، أذنك المرهفة التي كانت تسمع أدق الأصوات أصبحت لا تسمع، ماذا تقول؟ ارفع صوتك، ما أسمع، أسنانك التي كانت تكسر أصبحت لا تكسر شيئاً، تبدأ تسوس وتخلعها وتركب تركيبة وترقع من هنا لكن لا ينفع شيء، يدك القوية المفتولة انتهت، عضلاتك انتهت، رجلك التي كنت تدق بها في الأرض مثل الحديد، ركبك التي كانت -ما شاء الله- تصعد الدرج وأنت صاعد تقول: (والله! إن ركبي ضيمة معي روماتيزم) فمتى يكون هذا؟ من الأربعين إلى الستين.
يقول العلماء: في الستين ينزل الجسد والعقل معاً، حتى العقل يبدأ يضعف، ولذا ترون الشيبة في السبعين والثمانين نفسيته مثل نفسية الطفل يزعل من أتفه الأسباب ويحرق لأتفه الأسباب؛ لأن الله يرده، قال الله عز وجل: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل:٧٠] وقال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:٥٤].
يقول لي أحد الإخوة: والله إني أعرف شيبة لا يأكل إلا بالرضاعة! وقد بلغ أكثر من مائة سنة -وهو في البيت- ما لديه سن، ولا يستطيع أن يأكل أي طعام فيعطونه الرضاعة وهي ممتلئة بالحليب ليرضع، مثلما كان يرضع وهو صغير.
ولذا أمر الله عز وجل المسلم بالإحسان إلى والديه قال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:٢٣] "أف" هذه ليست كلاماً أصلاً، لا يوجد أحد يقول: أف.
ما معنى أف؟ هل لها مفهوم في اللغة؟ لا.
الأف هي: عملية التعبير عن التضجر وعدم الرضا؛ هذه حرام أنك تقولها لأبيك، فكيف بمن يسب أباه؟ كيف بمن يشتم أباه؟ كيف بمن يتكلم على أبيه ويرفع صوته على أبيه ويقول: اسكت، شغلتنا يا ذا الشايب! الله أكبر! {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:٢٣].
حملتك أمك تسعة أشهر كرهاً، قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [الأحقاف:١٥] تصور: إذا أنت شبعت بالليل ثم ملأت بطنك ثم أتيت لتنام لا يأتيك النوم حتى ينهضم طعامك، والطعام كله يمكن مثل يديك هذه، لكن كيف وأنت تتغذى في بطنها تسعة أشهر؟ تأكل من غذائها، وتمتص من دمها، وتنمو من جسدها، وبعد ذلك بطنها لك غرفة كاملة مهيأة، تقوم وتشتغل وتنام وأنت قاعد في قرار مكين، وبعد ذلك وضعتك كرهاً، يقول العلماء: إنه في لحظة من لحظات خروج الجنين من بطن أمه حياً تمر المرأة بلحظة فيها من العذاب ما لولا أن الله تبارك وتعالى رحمها وأبقاها لما تتحملها الجبال! نعم.
تصور رأساً وجسماً يخرج من ذاك المكان الضيق، من الذي أخرجه؟! قال الله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:٢٠].
وبعد ذلك بعد أن تخرج بعد الآلام والمعاناة والتعب تأخذك أمك وتلصقك إلى ثديها، ويترجم حنانها وعطفها إلى لبن حلو عذب، من أحسن الأطعمة في الدنيا، تعطيك طعامها، وبعد ذلك في الليل إذا مرضت لا يأتيها النوم -تعرفون الذين عندهم أولاد إذا مرض ولدك تنام سبعين نومة، وهي جالسة- طوال الليل وأنت في حضنها، وإذا جاءك الأذى عندها وجئت إلى أبيك ورآك أبوك قال: يا ولد! اذهب إلى أمك، اذهب، يا امرأة! غسلي الولد! ماذا بك؟ ألست أبوه؟ لا يستطيع أبداً، لكن الأم لا تتقزز منك أبداً.
يقول لي أحد الإخوة: هناك امرأة معروفة بأنها نظيفة إلى درجة بعيدة جداً، أي: امرأة لا تقبل أي شيء، لدرجة أنها إذا دخلت بيتها تأخذ المفتاح وتنفخه قبل أن تدخل المفتاح تقول: لكي لا يتوسخ ويكون هناك تراب يخرب علينا القفل من الداخل، وبعد ذلك تزوجت وأتى لها أولاد ووضعت النظافة تلك كلها بالنسبة لأولادها، يقول: والله إنها أحياناً تغسل أولادها ويأتي الطعام فلا تتحرج أنها تذهب تغسل يديها، تقول: كلها واحد، ترى أن أذى ولدها بالنسبة لها أنه طعام من حبها، من عطفها، من شفقتها عليك، ولو خيرت بين حياتك وموتها لاختارت حياتك بأعلى صوتها، بعض الأمهات تقول: والله إنني أريد أن أموت ولا يموت الابن.
فإذا ما كبرت وأصبحت رجلاً (عضلات ووظيفة) قلبت الموجة على أمك، خاصة إذا تزوجت بواحدة وأحببتها فإنك تكره أمك، وتبقى مع زوجتك، البسمة للزوجة، والسمرة للزوجة، والذهب الأصلي للزوجة، والملابس الغالية للزوجة، والطيب الغالي للزوجة، والهدايا للزوجة، والكهلة هناك، إذا مر عليها في الأسبوع مرة صبحك الله بالخير، الله يحسن خاتمتك، وسلم على يدها أو على أنفها، وكذلك إذا اشترى لها ذهباً أخذ لها من (الفالصو) وقال: إنها قديمة، إنها عجوز.
وإذا اشترى لها ملابس أخذ لها من أبو خمسة أو أبو ستة متر، لماذا؟ عجوز، والله لو كانت العصا قد خرقت يدها لكنها تعرف الجميل والقبيح، وتريد ذهباً أحسن مما تريد امرأتك.
القضية قضية اعتبارية، لما ترى فلذة كبدها الذي شقها وعقها وأتعبها طوال حياتها خيره كله لبنت الناس، وأنا أين جميلي؟ أين تضيعني أنا؟ أين هذا؟ ولهذا جاء في الأثر: من فضل زوجته على أمه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، كيف يا أخي؟! هذه أمك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابي لما سأله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أبوك - ثم قال- ثم أدناك فأدناك) لم يقل امرأتك في الحديث كله، يعني: الأقرب فالأقرب، ولكن المرتبة الأولى والثانية والثالثة للأم، وبعد ذلك الرابعة للأب، والمراتب الأخرى هذه قسم الناس على كيفك يا أخي، لكن الآن: المرتبة الأولى للزوجة، والمرتبة الثانية للزوجة والمرتبة الثالثة للزوجة، والأم أين هي؟ ما لها ميزة ولا لها كرت عند أكثر الناس، ال