[أسلوب نقل صور الآخرة ومشاهدها]
ثم جاء الأسلوب الأخير في القرآن الكريم لتقرير قضية البعث، ينقل صور ومشاهد مما سيحدث يوم القيامة بين المصدقين والمكذبين بالبعث، أناس آمنوا -نسأل الله أن يجعلنا منهم- بالبعث وعبروا عن إيمانهم بالعمل؛ لأن الذي يؤمن بالبعث لابد أن يعمل الصالحات ويترك السيئات، أما الذي لا يعمل الصالحات ويقع في المعاصي والسيئات -والعياذ بالله- هذا إيمانه بالبعث قليل أو معدوم.
علامة الإيمان بالبعث انضباطك، الآن الناس لماذا ينضبطون عند إشارات المرور؟ آمنوا بجندي المرور، علموا أن هناك جندياً أو سيارة تختفي في بعض الزوايا تضبط المخالفين، ولهذا يأتي الشخص فيقف عند الإشارة الحمراء ولو كان مستعجلاً، ولو كان معه مريض، آمنوا بالجزاء وأن هناك قسيمة بثلاثمائة ريال على قطع الإشارة، كل واحد يقف، لكن لو أن هناك إشارات لكن الدولة ألغت جهاز المرور، ,أعطت للناس حرية السير كيفما شاءوا فهل يقف أحد عند الإشارة؟ والله ما ترى شخصاً يقف عند الإشارة، لماذا؟ لا يوجد أحد عنده يقين أنه سوف يجازى! وكذلك الذي يعرف أنه سيجازى يوم القيامة ينضبط سلوكه، لا يزني؛ لأنه يعرف أن الزنا حرام، لا يلوط؛ لأنه يعرف أن اللواط محرم، لا يأكل حراماً، لا يغني، لا ينظر إلى حرام، لا يتكلم في حرام، لا يسمع حراماً، لماذا؟ انضبط سلوكه، لكن لو لم يكن مؤمناً فإنه يخبط خبط عشواء ذات اليمين وذات الشمال؛ لأنه ما آمن بالله، فالله عز وجل نقل لنا في القرآن الكريم صوراً من أحداث يوم القيامة، تبين حالة أهل الإيمان بالبعث، وحالة أهل الكفر الذين كذبوا بالبعث، في مشاهد كثيرة أذكر لكم بعضها: ومنها قوله عز وجل في سورة الصافات، بين رجل مكذب ورجل مصدق، قال عز وجل: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:٥٠] وهم في الجنة، أهل الجنة على الأرائك والسرر يتحادثون، ويتنادمون، ويتكلم بعضهم مع بعض، غاية النعيم أنهم يتحادثون في الجنة {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات:٥١] واحد من أهل الجنة {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:٥١] يقول: كان لي رفيق وصديق {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:٥٢ - ٥٣] هذا الكافر يقول: أأنت مصدق أنا إذا متنا يبعثنا الله ونحاسب وندان بأعمالنا؟ يقول المؤمن: كان لي صديق بهذا الوضع، إذاً فأين هو الصديق هذا؟ وإذا بربك الرحمن يقول في القرآن: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:٥٤] يعني: هل تريدون أن تنظروا حال هذا الرفيق؟ فهو موجود، لم يفلت من قبضة الله، وهو موجود في الدار الثانية، في النار {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٥٤ - ٥٥] نظر إليه من الجنة، وإذا به يراه في سواء النار أي: وسطها، مثل الفحمة السوداء يتعذب في النار، فلما نظر إليه قال له: {قَالَ تَاللَّهِ} [الصافات:٥٦] حلف بالله {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات:٥٧ - ٥٨] أي: بثباتي على الإيمان والدين {لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:٥٧] ثم قال لإخوانه: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٥٨ - ٦١].
{قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:٥٧ - ٥٧] ثم التفت إلى من حوله من إخوانه في الجنة وقال مغتبطاً ممتناً بنعمة الله بأن أدخله الله الجنة ونجاه من النار {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} [الصافات:٥٨] يعني: انتهى الموت الذي كنا نخاف منه، من أن ينغص علينا نعيمنا في الدنيا، ويهددنا في أولادنا وأزواجنا، الآن توجد زوجات خالدات، وقصور عاليات، وأنهار جاريات، ونعيم -نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا من أهله وإخواننا في الله في جميع بلاد المسلمين وآبائنا وأمهاتنا- يقول: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٥٧ - ٦١].
يذكر ابن كثير قصة في سبب نزول هذه الآية: أن رجلين من بني إسرائيل، رجلٌ مؤمن بالبعث وآخر كافر بالبعث، وكانا شريكين في تجارة، وكان صاحب الإيمان يعمل للتجارة، ولكنه يعمل لتجارة الآخرة أكثر، أما الكافر فكان يشتغل ليلاً ونهاراً على تجارة الدنيا، فكأنه ضجر من رفيقه المؤمن وطلب منه أن يفترقا، فاجتمعا وجمعا المال، فوجداه ثمانية آلاف دينار، فقسماه وأخذ كل واحد أربعة آلاف دينار، وقام التاجر الكافر واشترى بألف دينار أرضاً واسعة، واشترى فيها عبيداً بألف دينار أخرى، وبنى فيها قصراً بألف دينار، وتزوج زوجة كلفته في جهازها وتجهيزها ألف دينار، وعاش في هذه المزرعة الكبيرة، يخدمه العبيد، ومعه الزوجة الجميلة في القصر العالي.
أما ذلك المؤمن فأخذ الأربعة الآلاف دينار، وكلما سمع بأن صاحبه عمل شيئاً للدنيا، عمل شيئاً للآخرة، فحين اشترى أرضاً، قال: اللهم إن رفيقي فلاناً اشترى أرضاً سيموت ويتركها، اللهم إني أشتري عندك أرضاً في الجنة بألف دينار، ووزعها على الفقراء، وبعد ذلك علم أنه اشترى عبيداً قال: اللهم إني أشتري عبيداً عندك في الجنة بألف دينار، وعلم أنه بنى قصراً قال: اللهم إن رفيقي بنى قصراً في الدنيا سيموت ويتركه، اللهم إني أشتري عندك قصراً في الجنة بألف دينار، ووزعها على الفقراء، علم أنه تزوج قال: اللهم إن رفيقي تزوج امرأة سيموت ويتركها أو تموت هي وتتركه، اللهم إني أخطب عندك حوراء عيناء في الجنة بألف دينار ودفعها، ولم يبق معه شيء من المال، فقد قدمه كله في سبيل الله، فأراد الله عز وجل أن يمتحنه، ويجري عليه اختباراً، فضاقت عليه سبل المعيشة، حتى أصبح يسأل الناس، وصدته الحياة ولم يجد من يعطيه لقمة عيش، فتذكر صاحبه وشريكه الأول فذهب إليه يدق عليه الباب، ويطلب منه أن يعطيه شيئاً، ولما قرب من القصر طرده العبيد؛ لأن عليه أسمالاً بالية وثياباً مقطعة رثَّة، قال له العبيد: اخرج ولا تأتنا ولا تقترب، حتى لا يأتي سيدنا فيراك ويعاقبنا؛ لأنك تشوه منظر القصر، فقال: قولوا لسيدكم: فلانٌ يريدك، قالوا: نقول له أنت تريده؟ ومن أنت؟ قال: قولوا له هذا الكلام فقط، فصعد شخص إليه وقال له: بالباب شخص فقير مقطع الثياب يقول: إنه يريدك واسمه فلان بن فلان، فتذكر فنزل إليه ولما رآه صافحه وسلم عليه، وقبل أن يتكلم معه قال له: قبل كل شيء أين أموالك؟ قال: أقرضتها، قال: من أقرضتها، ومن الذي يقرض ماله؟ قال: أقرضتها المليء الوفي، وأشار إلى الله، المليء الذي لا يأخذ حقك، والوفي الذي سوف يعطيك ويوفي لك، فنزع يده منه وضربه في صدره، وقال: اذهب إليه، فرجع الرجل بحسرة وندامة ما بعدها حسرة، وعاش بقية عمره إلى أن مات، ولما مات ودخل الجنة أعطاه الله القصر والأرض والعبيد والزوجة، وذاك مات وترك كل شيء ودخل النار.
ولما دخل المؤمن الجنة أخبر الله بما سيكون يوم القيامة فقال: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:٥١] هذا الرفيق يقول: {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٥٢ - ٥٥] هذا يحصل بين من كذب بالبعث وبين من آمن به.
مشهد ثانٍ من مشاهد القيامة ذكره الله في سورة الأعراف وهي قوله عز وجل: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:٥٠] أصحاب النار وهم في النار يعانون من لهيبها وحرها، وسمومها وسلاسلها، وأغلالها وأنكالها، وحياتها وعقاربها، وظلماتها -والعياذ بالله- نعوذ بالله من لظى جهنم، وهم في هذا العذاب الأليم يسمعون أهل الجنة وهم يتنادمون ويتحدثون فينادونهم كما قال الله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:٥٠] من هم؟ {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف:٥١] هؤلاء الذين غرتهم الحياة الدنيا، واتخذوا آيات الله ودينهم هزواً ولعباً، وكانوا يجحدون بآيات الله، وبلقاء الله عز وجل، كانت نتيجتهم النار، وأولئك المؤمنون كانت نتيجتهم الجنة.
فيا أخي في الله! يجب أن تعمق هذه القضية والعقيدة في قلبك، وأن تشعر بأنك مؤاخذ ومسئول عن كل عمل تعمله، والله تبارك وتعالى يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٨] والله ما من حركة تتحركها، ولا لفظةٍ تتلفظها، ولا خطوة تخطوها، إلا مسجلة عليك، وسوف يخرج الله لك كتاباً تقرأه يقول الله عز وجل: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٩].
اسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم الإيمان، وأن يوفقنا جميعاً للعمل الصالح، وأن يثبتنا على ذلك حتى نلقى الله، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
كما نسأله تعالى أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته،