[آثار المعاصي والذنوب]
أيها الإخوة: لو استقرأنا التاريخ كله إلى يومنا هذا، لوجدنا أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفِع إلا بتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا إلى جانب الآثار البعيدة والمترتبة على المعاصي التي منها: حرمان العلم: فإن العلم نور؛ ولكن العاصي لا يوفق لبركة العلم.
حرمان الرزق: أي: البركة في الرزق: (فإن العبد ليُحْرَم الرزق بالذنب يصيبه).
ومنها: وحشة يجدها العبد في قلبه بينه وبين الله: فيستوحش من الله، ويستوحش من العلماء والدعاة، وأهل الخير، والمساجد، فإذا دخل المسجد كأنه سارق يقعد هناك بعيداً، لماذا؟ لأنه عاصٍ، بينما الطائع يدخل ويأتي إلى الصف الأول، ويستأنس، ويتكئ، ويأخذ المصحف، وذاك تراه عند الباب هناك، ماذا بك؟! لا يريد أن يقترب، كأنه دخل سارقاً؛ ولكنه إذا دخل المقهى يدخل وهو يضحك وينبسط: (هات يا ولد، هات الحجر، عبئ حجراً وهات أربعة سُوْد) ولا يريد أن يخرج، لماذا؟ إنها الوحشة التي بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإذا رأى العلماء عبس، إذا رأى الدعاة انقبض؛ لكن إذا رأى اللاعبين ضحك، وإذا رأى المغنيين انبسط، لماذا؟ وحشة في قلبه من أهل الخير بأسباب الذنوب والمعاصي.
أيضاً: ظلمة يجدها في قلبه، وتعسّر في أموره، وجبن، ووهن، ونقص في العمر ومحق للبركة: فكما أن البر يزيد في العمر كذلك المعاصي والفجور تُنقص العمر والبركة.
ينسلخ من قلب الإنسان استقباح صورة المعاصي، فتُزَيَّن له المعاصي، وتُكَرَّه له الطاعات، وتصير له المعصية عادة، ويصير خُلُقاً، أي: بعض الناس الآن يدخن من غير رغبة؛ ولكن أصبح الأمر (أوتوماتيكياً) وهو جالس معك لا تدري إلا وقد أدخل يده جيبه وأخرج (الباكت) وأشعل وشربَ دون أن يحس.
وقد حدث هذا لي مرة: كنت عند طبيب في مراجعة حالة مرضية، وإذا بالطبيب نفسه يبكي، قلت: ماذا بك؟ قال: مريض.
قلت: عالج نفسك، ألست طبيباً تعالج الناس؟! قال: إني لأعرف مرضي، وأعرف دواءه؛ ولكن الطب كله لا ينفع.
قلت: كيف لا ينفع؟ أي: ليس في هذه الأدوية مصلحة؟! قال: لا.
أنا أعرف مرضي، وأعرف علاجه؛ ولكنه -أيضاً- ليس بنافع.
قلت: ما هو مرضك؟ قال: مرضي (النقرس).
سماه: (النقرس) وهو: داء يصيب المفاصل والعظام، وكانوا يسمونه في الماضي: داء الملوك، وكان يصيب السلاطين والملوك؛ لأنهم كانوا هم الذين يشبعون ويأكلون اللحم؛ لكن الآن أصبح يصيب الناس كلهم، ولهذا لو حللت غداً -عافاك الله- ستجد أن عندك (النقرس) لماذا؟ للإفراط في أكل اللحوم، فالناس يفطرون بلحم الكبد، ويتغدون لحماً، ويتعشون لحماً، حتى قست قلوبهم كقسوة قلوب البهائم.
وأكلة اللحوم هي السباع، ولهذا يقول الغزالي: من يكثر من أكل اللحوم يتخلق بأخلاق السباع -أي: يصير سبعاً في أخلاقه، ويكون شرساً؛ لأنه يأكل لحماً- والذي يكثر من الخضار يتخلق بأخلاقها -أي: يصير عنده نوع من الخلق واللين- فنحن الآن أصبحت بطوننا مقبرة البهائم والحيوانات، حتى أننا لا نأكل إلا لحماً، والبيت الذي ليس فيه لحم في يوم من الأيام فإن ذلك يعتبر جريمة في حق الأسرة، لماذا لا يوجد لحم؟! و (النقرس) يأتي الناس الآن إلا من رحم الله وعافانا الله وإياكم، بل كما يقول أحد الإخوة: حتى الكلاب شبعت لحماً الآن، الآن الكلب تعطيه لحماً نَيِّئاً يقول: اذهب واطبخه- لماذا؟! مِن كثرة النعم -أيها الإخوان- فتصير عادة.
فهذا الرجل الطبيب لما كلمتُه عن المرض ووعظته، وأنا وإياه نتكلم في الدين، والأمل في الله، وإذا به يدخل يده في جيبه ويخرج (الباكت) ويفتحه، ويخرج واحدة منها مثل المدفع ويقول: تفضل، فسكتُ قليلاً، ثم نظرت إليه وقلت: ماذا؟! قال: تفضل.
قلت: أما تستحي على وجهك؟! قال: آه! آسف يا شيخ! آسف! والله لقد نسيت فأنا متعود هكذا أنه كلما كان عندي ضيف لا بد أن أقدم له، عادة فقط، كما هو الآن فعل أكثر الناس، تصبح المعاصي في حقهم عادة: عندما يركب السيارة يشعل السيجارة، ويشغل الشريط، وعندما ينام يشغل الأغنية.
أصبح الأمر عادة! وبئست العادة -يا أخي- أن تتعود على معصية الله.
كما أن الطاعات عند الطيبين عادة، من حين أن يركب السيارة يقول: باسم الله {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف:١٣ - ١٤] الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، وإن كان مسافراً قال: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى.
وهذا ليحفظه الله سبحانه وتعالى.
وإذا جاء لينام فبدلاً من أن يبحث له عن أغنية قبل أن ينام، يقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين.
وإذا لم يأته النوم أكمل التسبيح وفتح الراديو ليسمع إذاعة القرآن، لعله ينام على ذكر الله.
وهكذا تصبح الطاعات مَلَكات وصفات راسخة عند أهل الإيمان، وتصبح المعاصي مَلَكات وصفات راسخة عند أهل المعاصي، فلماذا -يا أخي- ترضى أن تكون عاداتك معاصٍ؟ إنها بأسباب ذلك.
يقول هنا: فتصبح المعصية عادة يستمر عليها، وذلك لسقوط العبد من عين الله، فتورثه الذلة، وتفسد عقله، وإذا تكاثرت المعاصي وزادت طُبِع على قلب صاحبها، ودخل العبد تحت لعنة الله، وحدث في الأرض أنواع من الفساد بسببه: في الماء، والهواء، والزروع، والثمار، والمساكن، والأشجار، والأولاد، والبنات، والزوجات، قال الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:٤١].
يقول مجاهد عند هذه الآية: [إذا سعى الظالم بالظلم والفساد حُبِس بذلك القطر، وهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد].