للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التفكر في النفس البشرية]

المجال الرابع من مجال الفكر: النظر في النفس البشرية، ودناءتها كما يقول ابن القيم: النفس دنيئة وطبيعتها أنها أمارة بالسوء، ما هي آمرة، بل أمارة، وأمارة هنا صيغة من صيغ المبالغة، لا تأمر مرة، بل تأمر باستمرار، فإذا عرفت طبيعة نفسك كثفت جهدك لمحاربة نفسك، النفس تكره القيود، النفس تحب الدعة، تحب الخمول، ما تحب الالتزام في شيء، انظر إلى نفسك الآن إذا وقفت في الصلاة لمدة عشر دقائق كيف تشعر بضيق وقلق، لكن إذا خرجت السوق وجلست أربع ساعات تجوب الأسواق ما تشعر بتعب، أليس كذلك؟ لماذا؟ لأن هذا قيد وهذا فيه (فلتة).

انظر إذا جلست في محاضرة ساعة، عينك كل قليل في الساعة، متى تكمل هذه المحاضرة، لكن انظر إلى اللاعبين والمشاهدين لملاعب الكرة، إذا انتهى الوقت الرسمي للمباراة يتمنون أن يكون تعادلاً؛ من أجل أنه يكون تمديد للمباراة ووقت إضافي، خاصة إذا كانت المباريات بالخروج المغلوب؛ وأنا أعرف هذا الكلام قد عشت فيه سنين، يقولون: نريد نصف ساعة، ويتمنون أيضاً أنه ينتهي الوقت الإضافي بالتساوي من أجل ركلات الجزاء، يريدون أن يطول الوقت، لماذا؟ لأنه (كلام فاضي) إنما الجد التي تعيشه النفس في محاضرة أو في سماع شيء طيب في حصة دراسية، والحصة الدراسية (٤٥) دقيقة وعين الطالب كل وقت في الساعة، وكذلك المدرس، وكل واحد ينتظر متى يسمع الصفارة؛ لأنها قيد في مصلحة، لكن لو كان لعباً، لا أحد يريد أن يقوم، يجلسون على الورق من بعد صلاة العشاء إلى الفجر ولا يحسون بتعب، هذه النفس هكذا! ما مسئوليتك؟ مسئوليتك أن تفكر كيف تؤدب هذه النفس؟ كيف تسوقها إلى الله في بساط الخوف من الله؟ كيف تأخذ عليها؟ لأن نفسك إما أن تسيطر عليها أو تسيطر عليك، إن أرغمت نفسك وسخرتها، ولهذا جاء في الحديث: (الكيس من دان نفسه) إذا سخرتها بقوة الشرع حملتك إلى طريق الله، أما إذا سيطرت عليك هي وأصبح البعيد حمار نفسه، هذا تقوده نفسه إلى النار، ولهذا يقول الله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:٤٠ - ٤١].

ويقول عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي: نفسه {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:٢٣] ما هناك نظر، لا يوجد اعتبار، أنت إذا أردت أن تصلي صلاة الفجر تأتيك النفس تحدثك: ارقد بقي وقت، تقول لها: لا.

كلما أوحت إليك نفسك بتأخر عن طاعة أو بتحفزٍ إلى معصية فاعلم أنها من النفس الأمارة بالسوء، جاهدها، كم يستمر جهاد النفس؟ يستمر جهاد النفس فترة إلى أن تشعر نفسك أنه ليس لها سيطرة عليك، وأنك رجل راجح العقل، ما تطيعها أبداً، تقوم تنتقل إلى مرتبة ثانية اسمها اللوامة، ثم بعد ذلك تسوقها إلى أن تصبح نفسك مطمئنة، تطمئن أي تسكن إلى الله، لا تريد إلا طاعة الله، ما تريد إلا الصلاة، ما تريد إلا المسجد.

فإذا جاهد الإنسان نفسه حتى تطمئن على طاعة الله، وتصبح طاعة الله قرة عين الإنسان، ويحبب الله إليه الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) هناك يستمر على هذا حتى ينتهي أجله، ثم يدعى الدعاء الخالد، الدعاء الرباني، المبشر بالجنة، والذي قال الله فيه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:٢٧ - ٢٨] راضية في ذاتها، مرضي عنها من قبل خالقها وبارئها: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٩ - ٣٠].

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.

فهذه النفس يا أخي الكريم! لا بد أن تقف منها موقفاً جاداً، احذر أن تلعب عليك نفسك، أو أن تخدعك، أو أن تزين لك الباطل، أو أن تكرهك في الحق، قاومها إلى أن يسهل عليك قودها.

يقول ابن القيم: إن النفس كالجواد.

والجواد حينما تريد أن تدربه لا بد أن تأخذه بقوة إلى أن يمشي، أما إذا أخذته من غير عسف فإنه سوف يرميك، ولا بد أن يعسف الجواد، يعسف أي: يدرب على المشي والسباق، وهذه النفس لابد أن تدربها على السير في طاعة الله.