[حقيقة ما بعد الحياة الدنيا]
هذه الحياة وهذه الدنيا، عرفناها يا رب! نريد الآخرة فما فيها؟ سنموت في هذه الحياة، سننتقل منها رغم أنوفنا، والله يقول: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:٣٤ - ٣٥] والذي ليس عنده تصديق أنه سيموت ينتظر حتى يموت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠].
وهناك عالم أو طبيب قرأت عنه في مجلة، كان يجري أبحاثاً على إمكانية إبقاء الروح في الإنسان، فماتت أمه فطمع في أن تنجح أبحاثه حتى يعيد الروح إلى أمه، وخشي أن يدخلها في القبر فتأكلها القبور فصفدها ووضعها في الثلاجة حتى ينهي الأبحاث ويردها لتعيش، ومضى عليها ثمان عشرة سنة وما انتهت أبحاثه، ثم مات أبوه فوضعه فوق أمه في الثلاجة، وبعد سنة مات صاحب الأبحاث وهو لا يزال يبحث، فأخرجوه هو وأمه وأباه ووضعوهم في المقبرة، فالموت حق.
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الباب ما الدار
وقال الآخر:
الدار جنة عدن إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار
هما محلان ما للمرء غيرهما فاختر لنفسك أي الدار تختار
قبل أن تحدد من الآن، إن كنت تريد الجنة فاسلك سبيلها، وإن كنت تريد النار فاسلك سبيلها، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث صحيح: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى -فاستغرب الصحابة وقالوا: من الذي لا يريد الجنة، أهناك أحد لا يريد؟ - قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) فالذي لا يريد طاعة الله هذا لا يريد الجنة، والذي يريد طاعة الله يريد الجنة (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) ستموت، وستخرج من هذه الدنيا، ستخرج من القصر إلى القبر منكوساً رأسك الأول.
بعد هذه الحياة حينما تنتهي أيامك على دهرها، ويأتيك داعي الله بالمغادرة إلى الدار الآخرة، تخرج منها كما دخلت فيها {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:٩٤] ما رأينا في حياتنا رجلاً جاء إلى الدنيا وخرج منها ومعه دفتر شيكات لكي يكتب شيكات لمنكر ونكير ولملائكة العذاب لكي يسهلون عليه الأمور ويعرفون أنه صاحب مال وأنه صاحب مكانة، لا.
لا يعلمون عنك، المال في الدنيا لكن في القبر ليس معك شيكات، ولو معك فلوس لا تمشي عملة الدنيا في الآخرة، عملة الدنيا ورق وعملة الآخرة حسنات، وأنت أتيت وتركت الورق وراء ظهرك والحسنات ليس منها معك شيء، مفلس، وتريد أن تأخذ الجنة بالفلس، صحيح أنك في الدنيا ما قصرت، ما عليك خلاف، عمارات وسيارات وأولاد وكل شيء، لكن الآخرة ما معك فيها؟ ماذا صنعت بالآخرة؟ هذا المهم، هذا المعول عليه.
تخرج من هذه الدنيا كما يقول الناظم:
ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
الإنسان يخرج إلى الدنيا، وهذه عادة وطبيعة يشترك فيها كل أطفال الأرض سواءً كانوا مسلمين أو وكفاراً عرباً أو عجماً يهوداً أو نصارى سوداً أو بيضاً، كلهم، أي طفل من حين أن يخرج يبكي، لماذا؟ ورد أن الشيطان يضرب الإنسان في ضلعه، فيخرج وهو يصيح، رغم أنه خرج من الضيق إلى السعة لكن يصيح لا يريد هذه الساحة، كان هناك محفوظاً فلما خرج ضربه الشيطان، فأنت تبكي ولكن الناس حولك يضحكون سروراً، بشروه بولد، الحمد لله جاءه ولد، جاء له رجل، يفرحون، يقول: فاعمل لنفسك -عملاً صالحاً- أن تكون إذا بكوا -لأنه سيأتي يوم تموت أنت ويبكون عليك- ضاحكاً مسروراً، لتخرج من الدنيا وأنت تضحك وهم يبكون مثلما جئت إلى الدنيا وأنت تبكي وهم يضحكون، لكن لا تأتي تبكي وتخرج منها تبكي إلى النار، تأتي باكياً وتخرج منها باكياً إلى جهنم، هذه هي المصيبة، سوف تخرج من هذه الدنيا.
لهوت وغرتك الأماني وعندما أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر
يتعب الإنسان ويكد ويجتهد ويأخذ الرتب ويأخذ المناصب فإذا زانت له من كل جانب جاء الموت ليخربها من كل جانب.
أحد الناس كان عنده عقارات وجاءته شوارع وبعد ذلك جاءته ملايين فجئت أزوره وهو مريض فقلت له: كيف حالك؟ كيف أنت؟ إن شاء الله بخير، قال: بخير، لكن لم تأتني الأموال إلا وقد أصبحت شايباً، وعلى فراش الموت، يا حسرتي! يقول: أموال ماذا أصنع بها وأنا شايب.
قلت: أنفقها تنفعك.
قال: أين؟ قلت: في الآخرة.
قال: أنت مطوع، قلت: جزاك الله خيراً، لكنه أبى أن يموت ويتركها، مخذول -والعياذ بالله- والله لو كان فيه خير لنفسه لعمل صالحاً من هذا المال، لكنه محروم حقيقة والعياذ بالله.
كما يقص علينا أحد الإخوة قصة يقول: كان هناك رجل بخيل وعنده مال، ودائماً لا يأكل إلا خبزة ناشفة قبل أيام الفقر، وهناك في هذه القرية عامل يمني يشتغل لكن لا يشتغل أي عمل إلا ويتقنه ولكن يشترط شرطاً، يشترط أن الفطور قرص بر، والعشاء -لم يكن هناك غداء في تلك الأيام (ما مثلنا دحس) ولم يكن إلا وجبتين فقط- بر ومعه كأس من السمن، تريد أن يشتغل عندك تعمل هذا الشيء، ولا يشتغل عندك أبداً إلا بهذا الشرط، فجاء هذا الرجل المحروم إليه وقال: تعال.
هذا تاجر عنده من السمن الكثير الكثير، قال: يا فلان! نريدك في شغل.
قال: طيب، لكن بشرطي.
قال: أبشر.
اشتغل له يوم وجاء في الضحى وإذا به يذهب له وأتى له بقرص ذرة على غير الشرط.
قال: ما هذا؟ قال: قرص ذرة.
وإذا به يرجم بالمسحاة والحكل وقال: والله لن أشتغل معك مرة ثانية، أنت كذاب، كيف تكذب علي؟! قال: لا.
أبداً، أكمل عملك ما يكلمه إلا أنت.
قال: لماذا؟ أنا شرطي أنك تعطيني قرص بر وكأساً من السمن.
قال: أبشر أبشر، لكن أنه عملك.
قال: اذهب، والله لن أشتغل حتى تأتي بها.
فذهب إلى البيت وأتى له بقرص بر وأتى له بكأس سمن، وأتى أيضاً بقرص الذرة، ما أتى لنفسه بقرص من البر مثل العامل، فقام هذا ووضع القرص في السمن وأكله، وذاك يأكل القرص الذرة ناشف.
قال: غمس يا عمي غمس.
قال: لا.
لن أغمس، قطر أنت، قطر.
يقول: كل وقطر لا تغمسها كاملة، يقول: كل اللقمة هكذا وقطرها حتى لا ينتهي السمن.
قال: طيب، فيأخذها ذاك ويغطسها ويغطسها لا يقطر ولا شيء، وما إن انتهى من قرصه قام الآخر والتفت هكذا فأخذ السمن وشربه، ما بقي له ولا قطرة.
ويوم أعطاه قال: أشهد بالله يا عمي أنك محروم.
فبعض الناس محروم -والعياذ بالله- من الخير، أنت ستخرج من الدنيا وليس معك من الدنيا شيء، قدم أمامك عملاً صالحاً حتى تلقاه بين يدي الله تبارك وتعالى، ابن مسجداً، ساهم في عمل الخير، أرسل للمجاهدين الأفغان، ساهم في جمعيات القرآن الكريم، أنفق على الفقراء والمساكين، لا تتاح لك فرصة من فرص الخير والإنفاق في سبيل الله إلا وتضرب فيها بسهم ولو قليلاً، لو مائة ريال، لو ألف ريال، لو ألفين ريال، المهم لا تخرج من عمل فيه خير وأنت صفر مفلس، أبداً، كلما شرع لك مشروع فيه خير لا تقل: لا والله، لا أضع، اجبر نفسك، اجبرها على الإنفاق؛ لأنك بهذا تربح مع الله تبارك وتعالى.