أمثال القرآن -أيها الإخوة كما ذكرتُ لكم- كثيرة، ولا يعقلها -كما قال الله في كتابه- ولا يعلمها ولا يفهمها {إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:٤٣] وفي هذا دعوةٌ لطلاب العلم، وحثٌّ على النظر والتأمل ومعرفة تلك الأمثال، ومعرفة مراد الله منها، حتى يُحْسَب من يتأملها ويعرفها عند الله من العالمين، وفيه إشارة إلى أن مَن لا يعقل أمثال القرآن أنه محسوبٌ في زمرة الجاهلين، وإن كان يحمل شهادة عليا، أو كان في نظر الناس من المثقفين أو من الواعين؛ لكنه لم يعِ أمثال القرآن، فالله ينفي عنه العلم، ويثبت له الجهل، ويعده من زمرة الجاهلين.
وقد اخترتُ -أيها الإخوة- في هذا الدرس بعض الأمثال من كتاب الله عز وجل التي تقرب المعاني، وأكتفي بثلاثة أمثال.
المثال الأول: مثل مَن يُعرض عن دين الله: يُدعى إلى الله، وتوضح له الطريق التي يسلك بها طريق النجاة، وتوضع له المعالم والأنوار والإضاءات التي تدله على الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة، فيَصُمُّ أذنيه، ويعمي عينيه، ويعرض عن طريق الهداية، بل يرفض ويهرب، فهذا ضرب الله عز وجل له مثلاً في كتابه الكريم من أسوأ الأمثلة، وشبهه الله عز وجل بالحُمُر الوحشية، فالحُمُر منها حُمُر أهلية، ومنها حُمُر وحشية، ويجمعها لفظ (الحُمُر) أي: حمير، والأهلية: هي التي تُسْتَخدم، وهي التي تُرْكَب ومعروفة عند الناس، والحُمُر الوحشية من فصيلة الحمير؛ ولكنها غير مستأنِسَة، ولا يألفها الناس ولا تألفهم، وهي متوحشة، تعيش في البراري والقفار، هذه الحمير مِن طبيعتها أنها تعيش في حالة عظيمة من الرهبة والخوف إذا رأت الأسد أو السبع، جميع الحيوانات تخاف من الأسود ومن السباع؛ لكن بعض الحيوانات تملك رباطة جأش، وتملك قوة صراع، وإمكانية دفاع، إلا حمار الوحش، من حين يرى الأسد أو السبع على مسافة بعيدة يهرب هروباً يكاد يموت، ويتكسر ظهره، بل وربما لم يره بعد؛ لكن فقط من مجرد الشم.
ويذكر هذا العلماء في كتبهم أنه يفر فراراً عنيفاً، أحياناً يتكسر من كثرة جريه، يحسب أن الأسد قد صار على ظهره، وبينهما مسافة طويلة.
فقد شَبَّه الله عز وجل مَن يكره العلماء، ويكره الدعاة، وينفر من مجالس العلم، ولا يحب سماع كلام الله، ولا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم كالحُمُر، يقول الله عز وجل:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}[المدثر:٤٩]؟! سؤال استنكاري! لأي شيء يعرضون عن ذكر الله؟! لأي شيء يتجاهلون داعي الله؟! لماذا؟! أليس يعنيهم؟! وما الذي يعنيهم في الأرض غير هذا؟! إن أول ما ينبغي التركيز عليه في اهتمامات العبد: أن يسأل لماذا وجد؟! ولن يخبره لماذا وجد إلا الذي خلقه، ولم يترك الله الإنسان يسأل، بل أرسل الرسل ليبينوا للناس لماذا خُلِقوا؛ لكن الناس الذين أعرضوا لا يريدون، ولهذا يقول الله:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[المدثر:٤٩ - ٥١] القسورة في لغة العرب: الأسد، والسبع.
فهؤلاء في إعراضهم إذا رأوا الداعية، أو العالم، أو مجلس العلم، أو دعاهم أحد إلى شيء يفرون، ومن قبل كانوا يفرون بأقدامهم كما تفر الحمير بأقدامها، والآن يفرون بسياراتهم! لماذا؟! قال: جاء (المطوِّع).
(المطوِّع) هذا يطوِّعك، و (المطوِّع): اسم فاعل، أي: يطوِّعك لله، يريدك بدل أن تكون مطوِّعاً للشيطان تكون مطوِّعاً لله؛ لأنك إما أن تكون طائعاً لله، أو طائعاً للشيطان، فهذا يطوِّعك ويجعلك طائعاً، وصفة الطائع صفة كريمة قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}[النساء:٦٩] فلماذا تفر منه؟! إن فرار الإنسان من أهل العلم، وإعراض الإنسان عن الدعاة، ورغبته في غير مجالس الذكر، دليل على أن عقليته عقلية الحمير، وأن مرتبته مرتبة البهائم، بل هو أعظم وأذل وأخس، يقول الله تبارك وتعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}[الفرقان:٤٤] لماذا أضل سبيلاً؟ لأن الأنعام سارت فيما سخرها الله عز وجل وخلقها من أجله، أما هؤلاء فهم أضل سبيلاً من الأنعام؛ لأنهم لم يسيروا في الطريق الذي رسمه الله لهم، ولا حققوا الغرض والهدف الذي من أجله خلقهم الله عز وجل.