[حقيقة استئناس الميت بمن حوله من الأحياء]
لقد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد موته، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: حضرنا عند عمرو بن العاص قبل وفاته رضي الله عنه وأرضاه وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، وجعل ابنه يقول: (ما يبكيك يا أبتاه! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ فأقبل بوجهه علينا وقال: إن أفضل ما أعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإني كنت على ثلاث درجات، فلقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً مني لرسول الله صلى الله عليه وسلم -لأنه أسلم متأخراً هو وخالد ومجموعة من كبار الصحابة- ولا أحب إلا أن أكون قد تمكنت منه فأقتله فلو مت على هذه الحال لكنت من أهل النار، فلما أنعم الله علي بالإسلام لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: ابسط يدك لأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو! قال: أشترط يا رسول الله! قال: ما تشترط؟ قال: قلت أشترط على ربي أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله وما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق النظر إليه إجلالاً وإعظاماً ولو سئلتُ أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه، ووددت لو أنني مت على تلك الحال لرجوت الله أن أكون من أهل الجنة، ثم مات رسول الله وولينا أشياءً بعده لا أدري ما حالتي فيها فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحةٌ ولا نار، فإذا دفنتموني فسنوا عليَّ التراب سناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور وتقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) فدل ذلك على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم.
هذا عمرو بن العاص رضي الله عنه داهية العرب ودهات العرب أربعة: عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه، وكل منهم انفرد بالدهاء في جانب، وكان عمرو بن العاص داهية العرب في الحزم والقوه والشدة والبأس، وكان معاوية داهية في الحلم والأناة، وكان المغيرة بن شعبة داهية في سرعة البديهة، وقد كان أميراً على البحرين في خلافة عمر بن الخطاب، فلما قدم الحجاج من البحرين، وكان عمر شأنه محاسبة الولاة عن طريق سؤال رعاياهم، فكان إذا حج جمع الوفود من كل بلد وسألهم: كيف أميركم؟ فإن أثنوا عليه خيراً مكنه وإن أثنوا عليه شراً حاسبه، فلما علم أهل البحرين بهذا الأمر أرادوا أن يقعوا في المغيرة فكادوا له مكيدة وجمعوا مائة ألف درهم من بعضهم وجاءوا بها إلى عمر وقالوا لما سألهم: كيف أميركم؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! جاءنا صعلوكاً -يعني: ما عنده مال- ولما أردنا أن نأتي إلى الحج وهو معنا استودع عند بعضنا مائة ألف درهم فعرفنا أنها من بيت مال المسلمين فجئنا بها إليك يا أمير المؤمنين! -يظنون أنه يقول: ما شاء الله! وكثر الله خيركم- فقام عمر رضي الله عنه؛ لأنه يقول: [لا تحكم على الخصم حتى يحضر]- فإنه وإن كان الخصم الذي جاءك يشتكي قد فقئت عينه، فربما الآخر قد فقئت عيناه فلا تتعجل بالحكم.
وقد عاتب الله داود؛ لأنه تعجل بالحكم، فقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:٢٦] ومقتضى الحق أنك لا تحكم حتى تستمع الدعوى والإجابة من الطرفين، أما أن تحكم مباشرةً فمعناه أنك لست حاكماً عدلاً، وأرسل الله على داود اختباراً في هذا فجاءه اثنان من الملائكة وتسورا المحراب وقال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:٢٣] فما صبر داود وما سأل الخصم وإنما حكم مباشرة: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:٢٤] ثم علل وقال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:٢٤] قال الله عز وجل {وَظَنَّ دَاوُدُ} [ص:٢٤] أي: اعتقد وعلم {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص:٢٤] يعني أننا اختبرناه بهذين الخصمين {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:٢٤].
وما يدار في كتب الإسرائيليات من أن داود عليه السلام كان له تسع وستعون زوجة، وأنه رأى امرأة في بيتها، فأرسل زوجها إلى الغزو، ثم أخذها وتزوج بها، فهذا كله كذب وافتراء وقدح في مقام النبوة، فمعاذ الله أن يفعل هذا وهو نبي مجتبىً مختار، فهذا الفعل لا يفعله إنسان عادي بأن يكون عنده تسعة وتسعين امرأة ناهيك عن أن يأخذ تلك، كما أنها امرأة لرجل آخر، والإنسان لا يطمح عادة إلا إلى البكر أما امرأة رجل آخر فلا يعقل ذلك! لكن هذه من الإسرائيليات التي تردها أدلة الشرع في عصمة الأنبياء وجلالة قدرهم ولا ينبغي القول بها كما ذكر ذلك المحققون-.
فكان عمر بن الخطاب شأنه ألا يترك الأمر معلقاً، فقال: هاتوا لي المغيرة؛ فلما جاء المغيرة، قال: ما هذا يا مغيرة؟ قال: ما هو يا أمير المؤمنين؟! قال: إن هؤلاء زعموا أنك جئتهم صعلوكاً وأنك أخذت من مال المسلمين بغير حق فلما قدمت إلى الحج استودعتهم مائة ألف درهم، فمن أين أتيت بها؟! قال: اصبر يا أمير المؤمنين! أولاً: أنا ما استودعتهم مائة ألف بل مئتي ألف -انظروا إلى الدهاء وسرعة البديهة- فمرهم أن يأتوا بها أولاً- فهم ما عندهم إلا مائة ألف وقد بحثوا عنها بكل وسيلة وهذه حجة عليهم- قال لهم أمير المؤمنين: هاتوا المائة الثانية، فـ المغيرة لا يكذب أبداً، فلما عرفوا أنهم وقعوا في ورطة قالوا: يا أمير المؤمنين! والله ما أعطانا لا مائة ولا مائتين -فكذبوا أنفسهم- ولكنا كرهنا الرجل قال: وما تكرهون فيه؟! قالوا: كرهناه دينه وعدله فأردنا المكر به فأوقعنا الله في مكرنا، فقال: الحمد لله الذي لم يخيب فراستي في المغيرة ورده والياً على البحرين.
فهذا من دهائه رضي الله عنه.
وكان عمرو بن العاص داهية العرب، ورجل العالم الذي دوخ الدنيا يضرب به المثل في الحزم والدهاء فتح مصر واستعمله عمر عليها.
وكان أهل مصر يأتون كل سنة بفتاة جميلة عذراء ويلبسونها أحسن الثياب ثم يدفعونها في النيل، وإذا لم يفعلوا ذلك فإن النيل لا يجري، فلما جاء عمرو أنكر عليهم وكتب إلى عمر قائلاً: إن أهل مصر يدفعون إلى نيلهم كل سنة فتاةً من فتياتهم، قال عمر: امنعهم من ذلك وألق كتابي هذا في النيل، وكان عمر قد كتب: [من أمير المؤمنين عمر إلى نيل مصر إن كنت تجري بأمر الله؛ فإن الله سيجريك، وإن كنت إنما تجري بأمر الشيطان فلا أجراك الله]- عمر يخاطب النيل! انظروا إلى قوة الإيمان- فأخذ عمرو بن العاص الكتاب ورمى به في النيل، يقول: فجرى النيل ذلك العام كما لم يجر من قبل وذلك بأمر الله عز وجل، وانقطعت تلك العادة الشيطانية التي كان الشيطان قد أوحى بها إلى الناس.
هاجر عمرو متأخراً سنة ثمانٍ للهجرة، وكان ذلك قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بحوالي ثلاث أو أربع سنوات، وهاجر معه خالد بن الوليد، وفرح بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمَّره عمر على بعض الجيش وجهزه للغزوات، وله أكثر من أربعين حديثاً منها ثمانية في صحيح البخاري، وكان واضحاً لا يعرف النفاق، يقول عنه قبيصة بن جابر: [ما رأيت رجلاً أبين رأياً، ولا أكرم جليساً ولا أشبه سريرة بعلانية من عمرو بن العاص رضي الله عنه] وكان ذا رأيٍ وشجاعةٍ ودربةٍ في أمور الحرب رضي الله عنه.