[التفكر في النفس من الإيمان]
لنتفكر فيك أيها الإنسان! نأتي إليك فقط ولا نذهب بعيداً؛ لأن التفكير في الكون يجب أن يسبقه التفكير في النفس؛ فألصق الأشياء بنفسك، فإذا كنت لا تعرف نفسك فلا يمكن أن تعرف ربك، والله يقول: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١] فلو فكرت في جزئياتك أنت، وحكمة الله في خلقك، لوجدت أنك خُلقت لحكمة، وأن كل عضو فيك، بل كل خلية وشعرة وعظم، ومفصل، ونقطة، وعرق خلق فيك لحكمة، ولا يمكن أبداً أن يوجد فيك شيء إلا لحكمة.
آخر ما قرأت في جريدة الشرق الأوسط بحث علمي حديث، هذا البحث يقول: إن الأطباء اكتشفوا أن في رجل الإنسان عروقاً وأوردةً وشرايين ليس لها أي غرض، يعني: موجودة دون أن يكون لها أي دور في عملية إمداد الجسم عبر الشعيرات الدموية بما يحتاجه من الدماء، وإنما تكون هذه الأوردة وهذه الشرايين مملوءة بالدماء وتصل إلى نقطة معينة مسدودة ولا تذهب هنا ولا هنا، وبعد ذلك وجدوا أثناء البحوث العلمية أن هذه العروق والأوردة هي بمثابة قطع غيار يمكن استعمالها في إيجاد حلول لأمراض القلب، فإذا وجدنا إنساناً عنده امتداد في الشريان أو انقطاع أو انسداد في الأوردة، وهذه لا يمكن أن يركب لها قطع بلاستيكية، وحاولوا أن يركبوا قطعاً بلاستيكية فلم تنجح، ثم ذبحوا خنزيراً في لندن وأخذوا قلبه ووريداً من أوردته ووضعوها في جسم الإنسان فتعفن؛ لأن الخنزير خبيث -وهم مثله خنازير، فمن خنزير إلى خنزير- لكن بالرغم من هذا لم تصلح خنازيرهم، فوجدوا أن هذا الشريان الموجود والذي ليس له دور أبداًَ لا يمكن أن يبقى فقطعوه واستفادوا منه، ووضعوه في القلب وصلح القلب.
من كان يعرف أن هذا الشريان له غرض؟ لم يكن يعرف أحد، لكن البحوث العلمية والكشوفات الآنية كل يوم تثبت أن لهذا الإنسان حكمة، وأن في كل جزئية منه حكمة تبدأ من رأسه إلى أخمص قدمه، ويخفى على الناس كثيرٌ من حكم الله تبارك وتعالى في الخلق، ولكن الإنسان مأمور باستمرار أن يفكر في نفسه، ولو فكر في رأسه فقط وما أوجد الله فيه من الحكم، أو في رقبته فقط وما أوجد الله فيها من الحكم لوجد الكثير.
هذه الرقبة هي جزء يربط بين الجذع والرأس، أو (زنبرك) تتحرك ذات اليمين وذات الشمال بغير تعب، ولو جعل الله الرقبة متصلة بالرأس والجذع عبر قطعة من الخشب لوجد الإنسان صعوبة بالغة في التحرك والتفاهم مع الناس، فلو أراد أن ينظر إلى الشمال لزم أن يحرك جسمه كله، فلو أن رقابكم لا تمكنكم من الحركة ذات اليمين وذات الشمال لصعب عليكم الأمر، إذ كل واحد يفترض به وهو جالس أن تكون عينه أمامه، ولا يستطيع أن يراني أنا إلا الذي أمامي فقط، لكن الله أعطى الرقبة قدرة على الحركة ذات اليمين وذات الشمال لتسهيل التخاطب والالتفات بغير صعوبة، وهذه حكمة من الله.
وترون يوم أن يصاب الإنسان بشد عضلي في عضلة الرقبة، كأن تنام على وسادة مرتفعة -مثلاً- فأنت معتاد على أن تنام على وسادة مستوية، لكن يحدث في ليلة من الليالي أنك لم تجد وسادتك، أو كنت ضيفاً وأعطاك المضيف وسادة كبيرة أو أنها أصغر من وسادتك، فنزلت العضلة أو طلعت، فيحصل عندك شد عضلي، أو تخرج من الهواء الرطب المشبع بالرطوبة إلى هواء لافح فيحصل عندك شد عضلي، هذا الشد العضلي -يسمونه العند- لا يمكنه من الحركة، فتراه لا يرى إلا أمامه، ويقول: رقبتي، حسناً! تعال قال: والله لا أريد أن أرقد أو أقعد سبحان الله! من أجل رقبته، عضلة بسيطة، كيف تسلبه راحته! يدك هذه بمثابة الجنديين اللذين يدافعان عنك، وتصوروا إنساناً بغير يدين كيف يدافع عن نفسه؟ فإذا جاءته بعوضة أو ذباب وجلس على عينيه أو حيوان يريد أن يفترسه، أو ثعبان يريد أن يلدغه، كيف يصنع؟ ليس معك إلا أن تعض، ولا يمكنك أن تعض كل شيء، وربما تعض الشيء هذا فيدخل في فمك فتموت، فالله جعل لك جنديين معلقين، ثم جعلهم الله في أعلى جسمك من أجل أن تستطيع الدفاع بهما عن كل جسمٍ، إذ لو كانت اليدان في الركبتين فإنه يلزمك أن تدني رأسك من أجل أن تأكل -مثلاً- لكن الله جعلها في أعلى الجسد من أجل أن تنال بها رأسك، وركبتك، وقدمك وبسهولة.
ثم حتى تكون الفائدة كاملة من اليدين فصَّل الله اليدين، إذ لو كانت اليدان على شكل عصا مثل (الصميل) فكيف ستستعملها؟ ما تنفع إلا للمضاربة، فتضرب بها هذا، وتضرب بها هذا، لكن الله ما خلقك للمضاربة، ومن أجل أن يعطيك صميلاً هنا وصميلاً هنا، لا.
فالله خلقك للعبادة، ففصل يديك لتعينك عليها فوضع لك عدة مفاصل، أول مفصل في الإصبع، ويليه مفصل ثانٍ وثالث ورابع وخامس وسادس، هذا التفصيل له غرض من أجل أن تستطيع الانتفاع به، إذ لو كانت حتى أصابعك هذه من دون مفاصل فإنك لن تستطيع أن تحمل مسماراً واحداً، فلو فُقد هذا التفصيل في يديك، فكان هناك مفصلان فقط في الذراع، بينما الأصابع لا يمكن أن تُعطف لما استطاع إنسان في الدنيا أن يشد مسماراً على مسمارٍ، وإذا ما استطعنا أن نشد المسامير، فهل من الممكن أن تقوم حضارة أو صناعة، هل من الممكن أن يكون هناك سيارات وطائرات، وما حدث من التطور الصناعي؟ لا.
لا يمكن؛ لأنك بماذا ستشد المسمار: بسنك، أم بالعصا؟ لا يمكن أبداً.
لكن الله تبارك وتعالى أعطاك هذا الجسم وفصله تفصيلاً، وجعل لك هذه القدرة من أجل أن تعمر الكون وتعمر الدنيا والآخرة.
فهذا فقط مما يظهر لك حكمة الله عز وجل في خلقك أيها الإنسان! ومبدأ السببية اتفق عليه جميع العقلاء؛ لأن لكل سبب مسبب، ولكل حدثٍ مُحدِث، حتى الطفل الصغير لو جئت به وعمره سنة واحدة، لا يعقل ولا يفهم شيئاً ثم تعال من وراء ظهره وهو جالس ودقه في ظهره، ماذا يفعل؟ يلتفت ليرى من الذي دقه؛ لأن عنده في فطرته أن لكل دقة داق، وقد جربت هذا والله مع طفلة صغيرة عندي، كانت جالسة فأتيت ودققتها في ظهرها فالتفتت، سبحان الله! إذاً هي عندها يقين، وعندها في فطرتها أن لهذا الحدث مُحدِث.
أيضاً حتى في طباع الحيوانات، الآن لو كنت في الصحراء وهناك غزال، أو ضبع، أو نمر، وسمع طلقة رصاص في مكان معين، فإنه يلتفت من أين جاءت هذه الطلقة؛ لأنه يهمه أمر الطلقة، ويعرف أن هذه الطلقة لا يقصد بها غيره، فمن أساسيات وجوده أن يكون حذراً على حياته، فهذه طلقة خارجة عن العادة، وشيء ليس بمألوف عنده، فمبدأ السببية وارد.
ومن الناس من اعتمد هذا المبدأ حتى وصل إلى العقيدة في الله عز وجل.
ومنهم من جعل المسألة حسابية ورياضية يعني: تجارية (١+١=٢) كيف؟ قالوا: إن الأضمن لحياتنا وآخرتنا الإيمان بالله؛ لأننا بالإيمان لا نخسر شيئاً، بل نكسب كل شيء، وبالكفر لا نكسب شيئاً بل نخسر كل شيء، إذاً الأضمن لنا والأحوط هو: الإيمان، حتى قال شاعرهم وفيلسوفهم وهو أبو العلاء المعري وهو فيلسوف ملحد:
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسرٍ أو صح قولي فالخسار عليكما
ونحن في دين الله لا نقبل هذا المبدأ حقيقة؛ لأننا لا نبني ديننا على الاحتمالات، فإن كان فأنا رابح وإن لم يكن فلم أخسر شيئاً، لا.
وإنما نأخذ أدلتنا باليقينيات، ونتقبلها بالجزم الذي يبلغ جذور وأعماق النفس، بحيث لا يخالط الإنسان منها أدنى شك؛ لأن الشك في دين الله يورث الكفر والعياذ بالله، لكني أورد لكم هذه القضية على أساس أنها قضية عقلية، وصل إليها العقلاء وقالوا: الأحوط لنا أن نؤمن بالله، حتى قال أحد الفلاسفة الغربيين الذين يعيشون في السويد وهو: باسكال، يقول: إما أن تؤمن بالله وإما ألا تؤمن، فماذا تختار؟ يقول: قبل الاختيار توازن بين ما يمكن أن تربحه بالإيمان وما يمكن أن تخسره بالكفر، ثم يقول: إنك بالإيمان تربح كل شيء، ولا تخسر شيئاً مهماً، وإنك بالكفر تخسر كل شيء ولا تربح شيئاً مهماً.
فالإيمان حقيقة مربح؛ لأنه يدعوك إلى الفضيلة؛ والصدق والوفاء والبر والعفاف والطهر والكرم والمروءة والشجاعة والنجدة وإلى كل الأخلاقيات التي تستقيم بها حياة الناس، فبالإيمان تربح كل هذه الأشياء، وتربح -أيضاً- الجنة في الآخرة، ويدعوك الإيمان -أيضاً- إلى أن تترك الزنا، والغناء واللواط، والخمور والفجور، والزور وأكل الحرام والربا، كل هذه الأمور تدعو إليها العقول بدون أديان.
إذاً: أنت بالدين والإيمان ربحت كل شيء ولم تخسر شيئاً مهماً، خسرت الزنا؛ وهل الزنا مكسب؟ لا.
خسرت الخمور، وهل الخمور مكسب؟ لا.
خسرت الفجور، وهل الفجور مكسب؟ لا.
فأنت لم تخسر شيئاً بترك هذه المحرمات، بل ربحت كل شيء، أما بالكفر والضلال -والعياذ بالله- فإنك تخسر كل شيء، ولا تربح إلا اللعنة والعياذ بالله.
ولذلك فإن الخيار الأفضل، والبديل الأمثل هو الإيمان، ولا شيء غير الإيمان! ونحن إذا آمنا لا نربح فقط الآخرة كما يتصور بعض الناس، حينما يقول: اهتدِ والتزم وآمن وتمسك لتكون في الآخرة من الفائزين، لا.
بل نربح الآخرة ونربح قبلها الدنيا؛ فربحنا في الدنيا بأن نعمرها بطاعة الله، وربحنا في الآخرة بأن نكون في جوار الله عز وجل، فنجد ثمرة سعينا في هذه الحياة، فنحن بالإيمان نكسب الدارين، وبالكفر والعياذ بالله نخسر الدارين، ولا نخاطر بدنيانا لنربح آخرتنا بل نربح دنيانا وآخرتنا.