[آثار قوة الروح في حصول السعادة]
يا أخي! يا عبد الله! آثار الإيمان وآثار قوة الروح واليقين بالله تكسبك السعادة والعزة في الدنيا، وتكسبك عند الموت في أول مرحلة من مراحل الآخرة أن الله عز وجل يثبتك ويطمئنك وأنت جالس في بيت أهلك، ورد في الحديث: (إن المؤمن ليرى منزله من الجنة ومن النار وهو في بيت أهله) وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! كلنا نكره الموت، قال: لا.
إن المؤمن إذا كان في بيته رأى منزله من الجنة -في بيت أهله- فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه، وإن الفاجر إذا كان عند الموت يرى منزله من النار -وهو بعد في البيت على فراشه، قد يرى كرسيه محجوزاً في جهنم- فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه) لكنه ذاهب إليه عند ساعات الحرج، ساعات الانتقال من الدنيا إلى الآخرة فتنكشف الحجب وتزول الحواجز ويرى الإنسان بعينه وبصره وبصيرته الآخرة، ويقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] فتقول الملائكة: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠].
وفي تلك اللحظات تكون قوة الجسد قد انتهت، لا تنفعك ولا تسقيك ماء، لكن قوة الإيمان في تلك اللحظات تتعرف عليك، ويأتيك إيمانك فيثبتك الله كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:٣٠] قالوا: ربنا الله بالإيمان، ثم استقاموا بالعمل {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:٣٠] أي: لا تخافوا مما أمامكم، ولا تحزنوا على ما ورائكم {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:٣١] هذا عند الموت.
ويأتي نداء الرب إلى النفس الطيبة التي طابت بذكر الله وبدين الله فتقول لها الملائكة: (يا أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان) اللهم إنا نسألك من فضلك يا مولانا، ما أعظم هذا النداء -يا أخي- يوم يقال لك هذا الكلام، وطبعاً الطيب هذا اكتسبه من هنا؛ لأن الطيب طيب في كل تصرفاتك، إذا طاب قلب المؤمن طابت كل حياته، تطيب عينه فلا تنظر في حراماً، وتطيب أذنه فلا تسمع حرام، وتطيب يده فلا يمدها إلى حرام، ويطيب لسانه فلا يتكلم في حرام، ويطيب فرجه فلا يقع به في حرام، وتطيب رجله فلا تحمله إلى حرام، ويطيب قلبه فلا يفكر فيه بحرام، ويطيب كل شيء في حياته، يطيب سلوكه، يطيب وجهه، تطيب ثيابه، تطيب سيارته، تطيب زوجته، يطيب أولاده، يطيب بيته، يطيب عمله، يطيب شارعه، كله طيب لأنه صبغ نفسه بالإيمان، ومن يوم أن تشاهده ترى الدين معه، هذا هو الطيب، فيقول الله تعالى: (يا أيتها النفس الطيبة! كانت في الجسد الطيب اخرجي إلى روحٍ وريحان، وإلى ربٍ غير غضبان، ويقول الله للملائكة قولي: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي} [الفجر:٢٧ - ٢٨]) المطمئنة التي اطمأنت وسكنت وثبتت على دين الله، ارجعي كأنها كانت في رحلة عمل، والآن ترجع من أجل أن تستلم المصاريف السفرية، والانتدابات من رب البرية: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:٢٨] راضية مرضي عنها من قبل خالقها وبارئها: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٩ - ٣٠] هذا عند الموت فقط، هذه المقدمات.
وبعد ذلك في القبر حينما يوضع الناس في قبورهم -ونحن منهم ولا نعلم متى يكون، يمكن الليلة أو غد أو بعد سنة أو بعد سنتين لا نعلم- هناك يحصل نقاش وسؤال وامتحان أول، فهذا هو الدور الأول من امتحانات الآخرة، وأسئلته ثلاثة: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ لكن هي سهلة الآن وصعبة هناك؛ لأن الأجوبة ليست بالتغشيش ولا باللسان: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} لا يتكلم اللسان لكن الجوارح والقلوب والأعمال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:٦٥] هناك يقال للمؤمن: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، ومن نبيك؟ فيقول: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ثبته الله؛ لأنه ثابت من هنا، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:٢٧] اثبت هنا تثبت هناك، زغ هنا تزغ هناك، أمسك الحبل من أوله، أمسك الطريق من أولها، احجز من هنا، لكن تبقى ضالاً وشارداً عن الله ثم تموت وتقول: رب ارجعون، فلا يرجعك ربي، هذا لعب لا يصلح، فيثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أما العمي الحيوانيون الذين عاشوا حياة البهائم فإنهم هناك لا يعرفون الله؛ يقال له: من ربك؟ يقول: هاه هاه لا أدري، ما دينك؟ هاه هاه لا أدري -مثل الذي يستيقظ من النوم- ومن نبيك؟ قال: هاه لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ثم يجازى ويأتيه عمله إن كان مؤمناً على أحسن هيئة وشكل، فيقول له: أبشر بالذي يسرك، فيقول له: من أنت فوجهك الذي يأتي بالخير؟ قال: أنا عملك الصالح حفظتني فحفظك الله، والعمل الصالح إذا حفظته يحفظك، إنك ترى كيف يكون سلوك الطيبين، كل عمله له وزن؛ صلاة وصيام وحج وبر، وأمر ونهي وطاعة وإحسان وصدقات، وذكر وقرآن وعلم ودعوة، كل هذا عمل صالح، لكن الفاسد ما معه من عمل؟ عمله كله دنيا وفساد، كله -والعياذ بالله- خبث في خبث، فكيف يجد عند الله عز وجل عملاً صالحاً وهو لم يعمله هنا.
حفظتني حفظك الله، فينام كما ينام العريس إلى أن يأذن الله لقيام الناس من قبورهم، فيحشروا إلى الجنة، وتمر به مراحل وأطوار يوم القيامة كأسهل ما تكون، يمر على الصراط كالبرق الخاطف، ويشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم شربة لا يظمأ بعدها أبداً، والحوض قد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هو أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وكيزانه -يعني: آنيته- عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبداً).
وبعد ذلك تأخذ كتابك بيمينك؛ لأنك من أهل اليمين، وتمشي في اليمين، وتمسك خط أهل اليمين، ولا تعرف الغلط، ولا تعكس الطريق، ولا تعرف الشمال، إنما تمشي مع أولياء الرحمن، وبعد ذلك توزن مع أعمالك وإذا بك لك ميزان، ويثقل ميزانك، لك وزن عند الله، أما أولئك فلا وزن لهم، قال الله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:١٠٥] وبعدما تتجاوز هذه الامتحانات يقال لك في النهاية: ادخل الجنة، تفضل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٠ - ٧٢] نسأل الله من فضله.