[الإسراف في المآكل في رمضان]
يحصل الآن مبالغة، وعند الناس عرف وعادة فيقال: سنة ما تخدم شهر ليست سنة، أنا أوفر حق سنة من أجل آكله في رمضان كله، فهو: يريد أن يحارب الجوع بأي وسيلة، فلا تراه في نهار رمضان أو قبل رمضان إلا مستعداً بالكراتين، وقد قلت للإخوة اليوم في الثانوية التجارية: إن واحداً من الأقارب اطلعت على بيان قدمته له زوجته بمطالب رمضان وإذا فيه (كرتون مكرونة) -وكان هو وزوجته وطفلان معهم- (كرتون شعيرية)، (كرتون نشا)، (كرتون قطر الموز)، وأنا كل شيء فهمته إلا (كرتون قطر الموز)، قطر الموز العلبة منه تكفي سنة؛ لأنك تضع على المحلبية قطرتين أو ثلاث من أجل تغيير النكهة، لكن أن تشتري (كرتوناً) لماذا؟ فلما قرأ علي قلت: يا أخي! لماذا هذه (الكراتين) من الذي سيأكل عندكم؟ قال: رمضان كريم! قلت: رمضان كريم من أجل تأكل ما في السوق؟ رمضان كريم من أجل أن تكون أنت كريماً، من أجل توفر جهداً مما عندك وجزءاً من مصروفاتك في شعبان وتصرفها على الفقراء والمساكين، تتعرف على الجيران، تأتي وأنت في الحي فتفيق في لحظة من اللحظات وتبحث عن البيوت التي بجوارك فتجد هذا موجوداً وهذا غير موجود، وهذا راتبه قليل، ثم تتعرف عن طريق السؤال وعن طريق التقصي على بيتٍ من بيوت جيرانك وتعرف أنه محتاج، فتأخذ الثلث الزائد أو أكثر منه من المصاريف وتذهب إلى السوق، وتشتري لهم نصف ذبيحة، وتضع معها من العلب التي تعتادها الناس في رمضان: الشربة، و (المكرونة)، والعدس وغيرها، ثم تحملها وتذهب بها إلى الفقير فهذا معنى (رمضان كريم) يعني: أن تكون أنت كريماً، أما كريم على بطنك فقط فهذا ليس بكرم، الكرم أن تخرج هذه الأشياء لمن يستحقها من عباد الله المؤمنين، فتجده يكدس ويملأ الدنيا فإذا بدأ رمضان، ففي الصباح بعد أن يخرج من دوامه يذهب إلى السوق، ويمضي ساعة أو ساعات وهو متنقل في البقالات وفي الأسواق المركزية، ولا يأخذ بيده، ولا يأخذ (بقرطاس)، بل يأخذ (عربية) ويطوف على كل ما في الدكان، ثم يملأها، شيء يأكله وشيء لا يأكله، بعض الناس يضع أشياء تفسد وتنتهي مدتها وهي في البيت، فلا يأكلها، لكن يريد أن يدفع عربية أمام الناس ليقولوا إنه كريم، وإنه إنسان يشتري لأولاده من كل ما لذ وطاب، ولكن لو طلبت من هذا الكريم عشرة ريالات للمجاهدين الأفغان أو لفقيرٍ مسكين لصعبت عليه العشرة الريالات، وكأنها مليون ريال، يقول:
وعند مراد الله تفنى كميتٍ وعند مراد النفس تشدي وتلجم
إذا كانت النفقة لله فبخلاء، وإذا كانت للنفس والشهوات والشيطان فما أكرم منا، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وبعد ذلك يذهب بها إلى البيت وفي الليل يذهب إلى السوق، يمر على الحنيذ ويشتري، ويمر على المقلي من (السنبوسة) و (الطرمبة) و (القطائف) و (الحلبة) والخضار فيأكل، وأنا رأيت شخصاً ذهب وحمل من الجرجير والفجل والبصل والخس، قلت: ما عندك؟ ظننت أن عنده حظيرة بهائم؛ لأن هذا سوف يكفي لأربع أو خمس أبقار، قلت: ما عندك؟ قال: هذا يا شيخ للأولاد، هذه خضرة وفيها حديد وبدأ يعدد لي فوائدها، قلنا: زادك الله خيراً، نسأل الله أن يعيننا وإياك على هذه الأمور.
الشاهد في الموضوع أن الواحد إذا أتى في المغرب أو قبل المغرب بساعة ويعود إلى البيت، وإذا عاد إلى البيت وجد ما لا يمكن أن يتصوره العقل، المرأة المسكينة تعلن حالة الاستنفار لكامل إمكانياتها وقواها البدنية من بعد صلاة الظهر، وتبدأ في إيقاد النيران، وقد كان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في أبياته النار (لا توجد نار) قال عروة بن الزبير لـ عائشة رضي الله عنها: [يا أماه! فما طعامكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء] وعبرت بالأسود أي: رديء التمر.
الأسودان التمر والماء، ثلاثة شهور لا توقد النار، ونحن توقد في بيوتنا النيران من كل جانب خصوصاً في شهر رمضان، فتجد الموقد فيه ست عيون كلها شغالة، وتحت فرن وفوق فرن، تحت شغال على (الكيك) والثاني شغال على (الرواني)، وفوق (السنبوسة) تقلب، وتدعو المرأة زوجها تقول: تعال قلِّب (السنبوسة)، وانتبه للسمك لا يحترق، وأنا سأذهب أنظر العيش لا يحترق، المهم غلبة وشغلة طويلة عريضة، والأولاد يشتغلون، وكل هذا من أجل ماذا؟ من أجل بطنك، هذا وقد كان آباؤك وأجدادك يفطرون على قهوة وعلى كسرة شعير، وهذا مر بنا، فكنا نعرف رمضان وليس رمضان إلا كسرة من الشعير وفنجان قهوة، ووالله إنها ألذ وأبرك من عشرين نوعاً من طعامنا هذا، ويقوم الناس للصلاة وبطونهم خفيفة، وأيضاً أمراضهم منعدمة، وحالتهم طيبة، وقلوبهم فيها خير، لكن الآن تجد المرأة واقفة على قدم وساق تدور وتصول وتجول، تملأ مائة صحن وهي تقرب من كل شكل، وبعد ذلك تدخل بها في الغرفة وتسردها، سفرة طويلة عريضة، فهذا هو العشاء.
أما الفطور فحدث ولا حرج عن الفطور؛ الفطور هذا لو أكله جمل لفسدت معدته: فيقدمون صحن تمر، وخمسين أو ستين حبة (سنبوسة)، ومائة أو مائتين حبة (لقمة القاضي)، وصحنين قطائف، وأربع أو خمس (جيكات): عصير برتقال، وعصير توت، وعصير تفاح، وعصير عنب، هذا الفطور فقط، فمن يأكل هذا؟ فتنتهي الصلاة في المسجد وهو لا يزال يأكل، رغم أن الطب الآن يتوافق مع ما جاءت به السنة من الأمر بأن يفطر الرجل المسلم على تمرات، فإن لم يجد فماء، فإن لم يجد فلبن، قال العلماء والأطباء: إن المعدة خلال إمساك الإنسان من أول النهار إلى آخره تضمر وتحتاج إذا أردت أن تشغلها إلى عملية إدفاء، عملية تحريك لها، وهذا يتم عن طريق التمرات؛ لأن التمرة فيها سعرات حرارية، فإذا أخذ الإنسان تمرة أو تمرتين أو ثلاث تمرات أو سبع، هذه التمرات تذوب في المعدة وتشغلها، وتبدأ تهضم على مهلها حتى تكون قادرة على هضم الطعام، لكن إذا أتيت وأعطيتها كثيراً من (السنبوسة)؛ و (السنبوسة) هذه من أعقد الأطعمة؛ لأنها تحتوي على الخبز وعلى الزيت المقلي، وعلى اللحم وعلى البيض وعلى الخضار، كل هذه من أعقد الأطعمة وتحتاج المعدة وقتاً لكي تهضمها، فيأكل الإنسان هذه الأكلة ثم يذهب إلى الصلاة متأخراً، بعضهم يأتي وقد فاتته صلاة المغرب، ولا يدرك تكبيرة الإحرام؛ لأنه يأكل فيريد يسابق على هذه الأشياء.
وبعضهم يأخذ (السنبوسة) لقمة واحدة ليس مستعداً يمضغها، لماذا؟ لأنه يريد يأكل كثيراً بسرعة من أجل أن يلحق الصلاة، وإن بلع الطعام قبل المضغ ففيه إتعاب للمعدة؛ لأن ما لم تمضغه بلسانك تضطر معدتك إلى هضمه بشكل أصعب، وبالتالي تتعب معدتك وتمرض في أول فرصة وفي أول مناسبة، ثم يصلي الإنسان ويعود بعد الصلاة ويجد السفرة الممدودة أمامه ذات الطول وذات العرض التي فيها كل ما لذ وطاب، ولا يعلم بأي شيء يبدأ، فيأكل من هذا ومن هذا، ولا بد من أن يعمم على جميع الأطعمة، ويا ويله إن كان أكل من نوع واحد؛ لأن أم العيال سوف تغضب منه، وتقول: أنا عملته لمن؟ وأنا تعبت من أجل مَنْ؟ والله ستأكل لقمة والله لتذوقنه، فيجيب يا بنت الحلال امتلأ بطني، قالت: لا.
ما عملنا إلا لك، فيأكل ويرضيها ويملأ بطنه إلى أن يبلغ الحلقوم، وبعدها لا يستطيع أن يقوم من مقامه، حتى الماء يطلب إحضاره إليه، يقول: هات الماء أغسل يدي هنا، وبعد ذلك هاتوا المخدة؛ لأنها (بنشرت الكفرات) ونام، بعضهم ينام قبل العشاء، ثم يؤذن للعشاء وتقام الصلاة في المساجد وهو لا زال في البيت يغالط نفسه، وبعضهم يأتي وقد صلوا الفريضة ويصلي ركعتين أو أربع ركعات أو ست ركعات من التراويح ثم يخرج، ويقول: قد سمعنا يقولون إنها سنة، يعني: السنة ليست جيده في نظره؛ لأنه متعب حقيقة، هذا مسألة العشاء.
وبعد العشاء بعد التراويح خذ ما تشاء من الأطعمة الأخرى والمكسرات والمشروبات وإلى وقت السحور، ثم السحور يتسحر الإنسان والسحور فيه بركة ولا نقول فيه شيئاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر به مهما كان، فتسحروا كما قال عليه الصلاة والسلام (تسحروا فإن في السحور بركة) هذه مسألة الطعام الذي من أجله ومن أجل الحد منه فرض الصيام، فكثرنا منه، أجل نحن قابلنا رمضان مقابلة غير صحيحة.