[عدد الجنان ومراتبها وتفاضلها]
اعلم يا أخي في الله! أن الجنة ليست جنة واحدة وإنما هي جنان، ذكر الله عز وجل في القرآن أربع جنان، وقيل: إنها ثمان، قال الله عز وجل: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:٢١] كما أن في الجنة من التفاضل في المنازل ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي بسند صحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: (في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلى درجة في الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة، ومن فوقها العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى) اللهم إنا نسألك الفردوس من الجنة.
ويروي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق).
فأهل الجنة وهم في الجنة يرون أهل الغرف العالية مثلما نرى نحن النجوم التي في أعلى السماء، وذلك من تفاوت ما بينهم في الدرجات، وأعلى الجنان الفردوس، ثم عدن، ثم الخلد، ثم المأوى، وهذه هي الجنان الأربع قد بينها الله عز وجل في سورة الرحمن، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦] ووصف ما فيهما من الأنهار فقال بعدما وصفها: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:٤٨ - ٥٨] تصور زوجتك ياقوتة وأخرى مرجانة تمشي أمامك، كيف تتصور امرأة من ياقوت، هل لك أن تتصور هذا في الدنيا؟ لا يمكن.
لكن نسأل الله أن يجعلنا نراهن حقيقة في جنته ومستقر رحمته، وأن نتمتع بهن في الجنة.
وهذه لا تأتي -يا إخواني- إلا بتعب دائم، فالسلعة الغالية لا أحد ينالها إلا بتعب: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فالجنة لا تنالها الهمم الضعيفة:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن كيف تصبّر الـ خطاب عنك وهم ذووا إيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها قط من متخلف وتعطل دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتواني
وتنالها الهمم التي ترنو إلى رب العلا في طاعة الرحمن
هذه الجنة العالية يقول الله فيها بعد ذلك: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦] وبعد ذلك ذكرها ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:٦٢] يعني: أقل من هذه الاثنتين جنتان: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:٦٣] فما نوعهما؟ قال: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:٦٤] بينما قال في الأخرى: {ذَوَاتَى أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:٤٨ - ٤٩] {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:٦٦] وقال في الأخرى {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:٥٠] والعين الجارية ليست كالعين التي تنبع وهي في مكانها لا تجري، والعين الجارية أفضل.
وبعد ذلك قال في الفاكهة: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:٦٨] أما في الأخرى فقال: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:٥٢] وبعد ذلك لما جاء عند الحوريات قال: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:٧٠ - ٧٢] أما في الأخرى فقال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ} [الرحمن:٥٦] يقول ابن القيم: فرق بين القاصرة والمقصورة، فالقاصرة قصرت نفسها، والمقصورة جبرت على قصر نفسها: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:٧٢] {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:٧٤] {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:٧٦] {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٧٨].
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما من فضة وما فيهما من فضة، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما من ذهب، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه عز وجل في جنة عدن).