[الهداية لا تنال بالأماني الكاذبة]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: إذا أراد الله بعبده خيراً سدده ووفقه وهداه: {وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:٤١] {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:١٤٦] {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:٢٥] {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:٦٠] الهداية والالتزام بالدين والانصياع لأمر الله والاستجابة لداعي الله خلق المؤمن: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:٦٤] ما أنزل الله الكتب، وما أرسل الرسل، وما أقام الحجج، وما بين البراهين إلا من أجل أن يستجيب الناس لداعيه، يقول الله عز وجل: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} [الشورى:٤٧] ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:٢٤].
إن الحياة الحقيقية إنما تنبع من مقدار استجابتنا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا خيار في أن نستجيب لأمر الله أو لا نستجيب، ولا نملك أن نتصرف وفق أهوائنا، بل لا بد من الاستجابة وإلا فالنار، يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦] ولكن لا يريد أن يمشي على الاستقامة فقال: أريد أن ألف، فقال له الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:٣٦] عرض نفسه للدمار، الدمار في هذه الدار، والدمار يوم يموت، والدمار يوم يقبر ويتحول القبر إلى حفرة من حفر النار، ويوم يبعث يقوم وقلبه يتقطع خوفاً وهلعاً من مصيره الأسود، وكذلك يوم يدخله الله النار ويقول: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:١٠٧] يقول الله عز وجل: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود:١٠٥ - ١٠٨] نسأل الله من فضله.
ما أعظمها والله -يا أخي- أن تكون سعيداً في الدنيا وسعيداً في الآخرة: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:١٠٨] أي: عطاء غير ممنوع ولا منقوص، بل هو كامل {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود:١٠٨ - ١٠٩] يعني: الكفار {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود:١٠٩] سوف يصليهم العذاب، ويتم عليهم التدمير، وسوف يتعرضون للدمار والنكال في الدنيا والآخرة، وسوف يجزيهم الله نصيباً وافياً غير منقوص.
الهداية مطلب لكل من يريد أن يهتدي وأن يسعد ولكن:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
كل واحد يريد العلياء، وكل يريد أن يعمل جيداً لكن لا تحصل هذه بالأماني، إن الأماني هي رءوس أموال المفاليس؛ المفلس الذي ليس معه شيء يعيش على الأمنيات، يقول: معي عمارات وطائرات، ومعي سيارات وعندي شركات، أمل! فقل له: أخرج شيكات سجلاً! نرى الرصيد ليس هناك شيء.
فالمفلس في الدنيا رأس ماله الأماني، والمفلس في الآخرة رأس ماله الأماني، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الكيس العاقل الفطن الحازم: (الكيس من دان نفسه) أدانها: استذلها وسيرها في الخط الصحيح رغماً عنها؛ لأن النفس أمارة بالسوء، النفس تكره القيود وتكره الالتزام، تحب التفلت، تحب الفضول، تحب الكسل، تحب البطالة، يقول الناظم:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاصرف هواها وحاذر أن توليه إن الهوى ما تولى يصمي أو يصم
ويقول الله عز وجل في أهل الكتاب لما جلسوا في مجلس مع الصحابة قالوا: نحن أصحاب كتاب، ونحن أصحاب رسالة سابقة والجنة لنا، قال المسلمون: بل.
الجنة لنا؛ نحن أصحاب كتاب، ورسولنا خاتم الرسل، وكتابنا خير الكتب والجنة لنا، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:١٢٣] هذه ليست بالأمنيات: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:١٢٣ - ١٢٤].
وقالت اليهود: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة:١١١] فقال الله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:١١١] يعني: أماني الكذابين {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى} [البقرة:١١١ - ١١٢] هذه كلمة (بلى) للإضراب: أي: الانتقال عن الشيء إلى آخر ضده، بلى يعني: كلامكم هذا غير صحيح ولكن {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:١١٢] يعني: اتجه إلى الله -حول الموجة- إذ كان متجهاً إلى الشيطان، والهوى، والشهوات، واللعب، والزنا، والغناء، والنساء، والسمرات يعني: عبد هواه، لكن حول وجهته {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة:١١٢] لأن بعض الناس الآن لا يسير إلى الله بل يتبع الشيطان وهو لا يعلم، وأحياناً يعطي لربه لفتة فقط، إذا أذن التفت لله قليلاً، لكن بعد الأذان يلتفت للشيطان ساعات طوال، يعني: هواه واتجاهه ووجهه وكيانه ليس إلى الله؛ فإن الله تعالى يقول: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} [البقرة:١١٢] أي: من استسلم؛ وخضع وانقاد ووقف بين يدي الله وقال: رب.
تبت إليك، أنت ربي وأنا عبدك، تبت إليك، وهأنذا بين يديك، أسير في طاعتك ولا أقع في معصيتك: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة:١١٢] وماذا؟ {وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:١١٢] هذه هي الاستجابة الصحيحة، وأما الأماني فلا تنفع، فهل يمكن في الدنيا أن تحصل بالأماني على شيء؟ هل يمكن أن تأخذ شهادة الثانوية العامة بالأماني وأنت نائم في البيت؟ هل يمكن أن تأخذ شهادة الجامعة بالأماني؟ تقول: يا رب.
أتمنى أن تعطيني شهادة الجامعة وأنا جالس في سنوات الابتدائي، تقوم في الصباح كل يوم، وتذهب في البرد، وتجد ألم الضرب من الأستاذ، وتجد حمل الكتب والواجبات والحفظ والمذاكرة، وتتعب رأسك بهذه الدروس التي تجهد الرءوس، لكن تصبر حتى تأخذ الشهادة الابتدائية، ثم تدخل المتوسطة، ثم تدخل الثانوي، ثم تدخل الجامعة، عمر! ست سنوات ابتدائية، وأربع سنوات متوسطة، وأربع ثانوي، حتى تصير أربعة عشر عاماً تعليماً، وبعد ذلك يقولون: أنت جامعي، ابحث عن وظيفة تفضل! لكن لو أن شخصاً قال: هذه الدراسة دوختني، ما فائدتها؟ قال: أنا سوف أقعد في البيت.
ماذا يفعل؟ هل هذا تأتي له وظيفة؟ لا يحصل على شيء، إذا توظف يكون فراشاً أو كاتباً، لا يجد وظيفة؛ لأنه ما صبر على ذل التعلم حتى ينال عزته؛ لأن كل شيء تنال به ذلاً تجني منه عزاً، ولكن إذا ما رضيت وتمردت وأردت أن يحصل لك مجد بالأماني فإنها لا تنفع، الأماني هي رءوس أموال المفاليس، والهداية والدين أمنية، كل واحد يريد أن يكون مهتدياً وبعضهم يقول: أريد أن أتدين أريد أن أهتدي، نقول له: إذا كنت تريد أن تهتدي فلا بد أن تسلك سبيل الهداية، يقول الشاعر:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
السفينة لا تجري إلا في ماء، وأنت إذا أردت النجاة يجب أن تسلك طريقها وأن تسلك مسالكها.
فمثلاً: إذا كان الشخص عنده زرع في هذه البلاد، وأراد أن يدخل السيل في زرعه فما الذي يلزمه؟ أن يعمل المجاري، ويتتبع رأس الشعب، وكلما رأى السيل جارياً أصلح طريقه، وجاء إلى عند الزرع وفتح المجرى، وبعد ذلك قام وقال: يا رب! ارزقنا.
يا رب! أمطر علينا.
يا رب! أنزل علينا السيل، فيأتي المطر فيدخل إلى الزرع، لكن ما رأيكم إذا وجد شخص أغلق على الزرع، وجاء على الشعب من أعلاه إلى أسفله يقطعه من هنا ومن هنا، وقال: يا رب! اسقني بالسيل، اسق زرعي.
إذا نزل السيل لا يصل إلى الزرع منه قطرة؛ لأنك أنت الذي عملت بيدك، أنت حجبت السيل بيدك.