للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حرمان العاصي من البصيرة]

وكلما كانت البصيرة قليلة أو ضعيفة، كان ذلك بمقداره، فيحرم العاصي من البصيرة، والمؤمن يعطى نوراً في قلبه، وبصيرة في عقله، تجعله يرتب الأمور بحسب أولوياتها في الترتيب، تقديماً وتأخيراً، وتعظيماً، مهماً وأهم، هل البصر يرتب هذه القضايا.

لا.

إن الذي يرتبها هي البصيرة.

النور يقذفه الله عز وجل في قلب المؤمن.

والذي لا يملك هذه البصيرة يعيش أعمى ولو كانت عيونه كعيون الثور، والله يقول: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:٧٢] ويقول عز وجل: {إِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦] ويقول عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:١٩ - ٢٣].

فالذي ليس معه نور الإيمان فهو أعمى، ولا يعرف كيف يسير في هذه الحياة، ولا يعرف كيف يرتب نفسه، ترتيباته ترتيبات مادية، فيقدم شهوة البطن فيأكل، أو يقدم شهوة الفرج فيبحث عن مواطنها، أو يقدم شهوة الملابس فيظهر في ملبس فاخر، أو يقدم شهوة السكن فيريد عمارة، أوشهوة السيارات فيريد سيارة جديدة فهذه ترتيباته وأولويات حياته كلها محصورة في نطاق مادي، في شهوات البطن والفرج والسيارة والنوم والعمارة وتمشية وأكل، لكن شيء غير هذا.

لا.

أهم شيء في حياته الذي خلق من أجله، ومصيره كالموت والقبر والحشر والنشر والصراط والحوض والكتب والجنة والنار، هذه مشطوب عليها في ميادينه، ما لها كرت أو ميزان! لماذا؟ لأنه أعمى لا يرى الطريق، وليس لديه البصيرة، لكن لو كان عنده بصر لرفع بصره ونظر إلى الآخرة، ثم نظر إلى الدنيا، بشهواتها، وملذاتها، ومتاعها، وما فيها من اللذائذ كلها إذا وضعتها في موضعها الطبيعي تراها، لكن إذا قربتها إلى قلبك، إلى أن تغطيه فلن ترى إلا هي، ولن تبصر إلا هي، مثل إصبعي هذه، إذا وضعتها أمامي أرى مساحتها (٤×٣×١ سم) لكن لو قربتها من عيني إلى أن أغطي بها عيني فلا أرى شيئاً إلا هي، ولا أرى أن وراءها مسجد، أو أناس، أو عمارات وأراضٍ، ما أرى إلا هي؛ لأني لصقتها لصقاً كاملاً بعيني، فحجبت مجال الرؤية، والناس حين يلصقون الدنيا وشهواتها بقلوبهم، حتى تحجب عنهم كل شيء يرونه فلا يرون إلا الدنيا، ولهذا رب العالمين يقول: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:١٨] ويقول عز وجل: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:٢٦] وجعلنا لهم سمعاً من أجل أن يسمعوا، وأبصاراً من أجل أن يبصروا، يسمعون ماذا؟ يسمعون كلام الله، ودينه، وخطابه، يبصرون طريق الله، وأفئدة يعقلون عن الله أسرار خلق البشر، فهم ليسوا كالبقر، الآن هؤلاء أهل الشهوات، وأهل الكفر والمعاصي، الواقعين فيها والبعيدون عن الله، اسأل: ما الفارق بينهم وبين حياة البهائم؟ لا شيء!! اسأل الحمار، قل له ماذا تريد يا حمار؟ يقول: أريد حمارة.

فقط تراه يمشي، فإذا رأى حمارة رفع رأسه وجرى وراءها، نعم هل عند الحمار غير هذا الاهتمام؟ وماذا تريد غير الحمارة؟ قال: أريد علفاً آكله، حتى أشبع، وبعد ذلك؟ قال: أرقد.

فهذه هي حياة البهائم، والذين يعيشون هذه الحياة.

من البشر هم بهائم يعيشون في مسلاخ بشر، والله سماهم بهائماً في القرآن قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:٤٤] يعني: كالبقر والحمير، فالبقر، والبهائم أفضل منزلة؛ لأن الله تعالى سخرها وسارت فيما سخرها الله فيه، أما الإنسان خلقه وميزه وكرمه وفضله، وأعطاه العقل من أجل أن يعرف طريق الحق فيختاره ويعرف طريق الباطل فيجتنبه، فاختار طريقاً ليست حتى من مراتب الحيوانات، قال الله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:٤٤].

فالله زودهم بهذه الإمكانيات، فاختاروا الخيار الأسوأ والعياذ بالله، وعاشوا لا يعرفون حقيقة الحياة التي هي عندهم ما تراه عيونهم وشهواتهم، أما الحقائق فإذا جئت تكلمه في يوم من الأيام تقول له: يا أخي! الموت قادم؛ فلأنه لا يرى إلا الدنيا، يتضايق من ذكر الموت، يقول لك: أنت تريد أن تميتنا قبل وقتنا دعنا نتمتع الآن، تقول له: أمامك الجنة والنار والقبر، أما ترى أباك من يضعونه في القبر بعد الفراش الوثير، والنور والزوجة فيجعلونه في ثوب ويهيلون عليه التراب ويتركونه؟ هناك عالم آخر.

أما المغالطون فيقولون: لا شيء هناك، تضعونه في القبر فحسب، من قال لكم: لا يوجد شيء؟ من هو الذي مات، ونزل القبر وذهب الآخرة وما نظر شيئاً ورجع يقول: لا يوجد شيء؟ هل هناك من رأي ذلك؟ لا.

حسناً من قال لنا: لا يوجد لا أحد قال لنا ذلك، ومن قال: إن هناك شيئاً بعد الموت؟ الأنبياء والرسل أخبروا عن الله بإجماع منهم منذ نوح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم، ما من نبي إلا ويعلن أن البشر مبعوثون، وأن الناس سوف يحاسبون.

وأيضاً هناك دليل عقلي منطقي: لا بد من الحساب، فالذي يقول: لا يوجد بعثاً ولا حساباً، هذا يلغي عقله؛ لأن العدل ما تحقق في الدنيا فلا بد من تحققه في الآخرة جزماً، فالآن ترى الواحد يعيش وهو مؤمن بر تقي صالح ومن أحسن الناس ولكن لا يجد له جزاءً على هذا الصلاح، لكنه قد يؤاخذ، وربما يسجن، أو يؤذى، أو يقتل أو يمرض ويعيش فقيراً، بينما تجد الآخر فاجراً، مجنوناً، مجرماً، خبيثاً، هتاكاً للأعراض، يلغ في الدماء يكذب يسفك يبيع الشعوب يمارس كل أنواع الجرائم، وبعد ذلك يموت، ويموت ذلك البر المؤمن، ولم تصل يد العدالة إلى ذلك المؤمن فتجازيه على عمله الطيب، ولا إلى ذلك الفاجر فتجازيه على عمله السيئ، أتنتهي الحياة بهذا؟ هل يتصور ذلك؟ كلا.

يقول الله عز وجل: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:٣٥ - ٣٦] ويقول: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:٢٨] ويقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:٢١ - ٢٢] فالذي يقول: لا يوجد شيء بعد الموت، نقول له: من قال لك؟ يقول: أنا ما رأيت شيئاً، وكونك ما رأيت شيئاً هل يعني أنه ليس هناك شيء؟ الآن هذا الجدار من يراه يقول: ليس وراءه شيء، لكن افتح الباب وانظر، وسوف ترى أن وراءه أشياء، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم إلا ويرى مقعده من الجنة أو النار وهو في بيت أهله) في ساعات الاحتضار تزول الحواجز والحجب، ويرى المؤمن وهو جالس في بيته ملائكة الرحمة، ويرى الفاجر ملائكة العذاب، فيفرح المؤمن ويتمنى لقاء الله، ويحزن الفاجر والكافر ويكره لقاء الله، فهنا يحب الله لقاء المؤمن، ويكره لقاء الفاجر.

فهذا الذي يعيش في سجن المادة الذي غطى على قلبه بالدنيا والشهوات، حتى لم يعد يرى شيئاً مما يجب أن يراه في هذه الدنيا، إذا حدثته تقول له: الآخرة! يقول لك: لا.

لماذا؟ لأن الران قد كسا قلبه، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله.