[الروح]
الجزء الثاني من أجزاء الجسد الرئيسية: الروح.
والروح بمنزلة الطاقة المشغلة للجسد، مثل الميكرفون، الميكرفون مكون من أجهزة: لاقط، وعصا، وجهاز (إمبرفاير) و (هورن)، هذا الجهاز يكبر الصوت، لكن الذي يشغله الطاقة الكهربائية، إذا فصلنا الطاقة الكهربائية، هل يشتغل ويكبر الصوت؟ لا.
لأن المشغل له الكهرباء، والجسد المشغل له الروح، إذا فصلنا الروح فهل يشتغل الجسد؟ وإذا مات الإنسان والجهاز السمعي موجود لكنه لا يسمع، والجهاز البصري -عينيه ستة على ستة- موجود لكنه لا يرى، والقلب موجود لكنه لا ينبض، والكلية موجودة لكنها لا تصفي الدم، والرئة موجودة لكن عملية الشهيق والزفير لا تعمل، لماذا كل الأجهزة توقفت؟ لأن الروح معزولة.
إذاً: ما هي الروح؟ قف! إنها شيء استأثر الله بعلمه، وحجبه عن البشر، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل فيها شيئاً، بل لما سأله اليهود عن الروح قال الله له: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:٨٥] ولم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته عن شيءٍ من أسرار الروح إلا بخبر واحد وهو أن الميت إذا مات تبعها البصر، ولهذا أي ميت تأتي وتراه بعد الموت ترى عينيه شاخصتين إلى الأعلى، لماذا؟ لأن الروح خرجت وصعدت إلى الله فيتبعه البصر، ولهذا يشرع لمن حضر الميت أن يغمض عينيه؛ لأن عينيه شاخصتان إلى السماء، ولن تغمض إلا إذا أغمضتها أنت؛ لأن المشغل للتغميض خرج.
تساءل من الذي يجعل عينك تغمض كل لحظة؟ ولماذا تغمض عينك كل لحظة؟ لأن عدسة العين عليها غطاء وفيها مادة ملحية، وتتعرض العدسة لعوامل الجو فتنشفها، فلا بد من عملية تمسيح لها، وفي نفس الوقت إعطاءها مسحة من الدمع لكي تظل دائماً مصقولة، فلو أن الله جعل عينك مفتوحة، وجعل عملك أنك تمسح عينك، فلن يكون لديك عمل إلا تمسيحها، كل لحظة تقفل وتمسح، لكن الله ركب لك على عينيك جفنين يعملان تلقائياً (أوتوماتيك)، بل بعضهم يدخل (مباراة) فيمن يفتح عينه لا يغمضها، ويقول: عينك في عيني، لا تغمض، فمن يغمض فعليه كذا! ولن يطبق؛ لأن عينه احتاجت أن يغمض غصباً عنه لكي يمسح العدسة، لكن عندما تموت أنت، وتفتح عينك، وتخرج الروح، فلا توجد روح تطبق جفنيك، بل تحتاج إلى شخص من الموجودين لكي يغمض عينك، ويغلق فمك، لكي لا تبقى فاغر الفم، شاخص العين.
فالروح لا يعرفها أحد، بل استأثر الله بعلمها، وما دمنا لا نعرفها فلا يجوز لنا الخوض فيها، ولو أن الروح شيءٌ مادي يمكن معرفته لكان الناس قد وصلوا إليها، خاصة في هذا العصر -عصر العلم- فعندهم أجهزة دقيقة تكبر الأشياء، وأنا رأيت (مجهراً إلكترونياً) يكبر ثلاثة ملايين مرة، يعني المليمتر الواحد -الذي هو واحد على عشرة من السنتيمتر- يجعله ثلاثة (كيلو).
فلو أن الروح شيء مادي لرأيناها تحت المجهر، لكن اسأل في الشرق، واسأل في الغرب، واسأل في الجامعات عن الروح، الجميع لا يدري.
وقد قرأت قبل فترة بحثاً لعالم أمريكي أجرى أبحاثاً على الروح، ورصد حالة مريض يحتضر وركَّب عليه أجهزة ترصد أي حركة تدخل فيه أو تخرج منه، في صندوق زجاجي، وفجأة يموت الإنسان ولا تسجل جميع الأجهزة شيئاً، بمعنى: أن الروح شيء لا يعرفه البشر، ولا يعلمه إلا الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:٨٥].
فعلاقة الروح بالجسد علاقة تشغيل، وتنفصل من الجسد في حالتين: الحالة الأولى: حالة النوم.
الحالة الثانية: حالة الموت.
ففي حالة النوم تنفصل، ولكنه انفصال قريب، وتترك الجسد بدليل أنك لو أتيت إلى النائم ووضعت عند أنفه عطراً هل يشم وهو نائم؟ لا.
وإذا فتحت عينيه ووضعت أمامه منظراً أو يديك وهو نائم هل يراك؟ لا يراك، تتكلمون في المجلس وهو نائم لا يسمعكم، رغم أن الأذن التي تسمع موجودة، والعين التي ترى موجودة، والأنف الذي يشم موجود، لكن الروح التي تجعلك تشم، وترى، وتسمع غير موجودة، أين هي؟! خارج الجسد، قريبة أم بعيدة؟ قريبة، فإذا أردتها أن تعود، توقظه وتقول: يا فلان يا فلان! فيقول: نعم، نعم.
أين كانت؟ لا تدري، أعطه العطر، يشم، ولماذا شم الآن، ولم يشم حال النوم؟ لأن الذي يشم كان غير موجود أين تذهب الروح عندما تنام أنت؟ لا تدري، قال العلماء: تبقى قريباً من الجسد بحيث إذا دعيتها تعود، ولهذا قال الله وهو يسمي النوم وفاة: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:٤٢] يتوفى الأنفس: أي يميتها، حين موتها: أي: عند الموت.
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الاستيقاظ من النوم: (إذا قمت تقول: الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور).
لكن لماذا النوم لا يمكن أن يكون إلا بخروج الروح؟ قالوا: لأن الروح راكب، والبدن مركوب، ولا يمكن أن يرتاح المركوب والراكب عليه، فهل يمكن أن ينام حصانك وأنت راكب عليه، طبعاً لا؛ بل لا بد أن تنزل عنه، ولهذا إذا دخلت بيتك الآن وأنت آتٍ من سفر، أو آتٍ من العمل متعب، مثقل، محطم، وقلت لزوجتك: دعوني أنَمْ، لا أريد أكلاً، لا أريد أن أرى أحداً، أريد أن أنام، أريد أن أرتاح فقط، فقالت لك زوجتك: تفضل، ادخل على السرير والمكيف والغرفة هادئة لكن استرح ولا تنم تمدد لكن لا تنم، وكلما غمضت عينك دقت الباب لئلا تنام، ما رأيك هل ترتاح؟ ولو تقعد أربعين ساعة لن ترتاح، لكن نَمْ أربع ساعات -وأنت نائم ينزل الروح الذي هو الراكب- ثم توقظك زوجتك، ستجد أنه قد ارتاح جسدك، تقوم وأنت تقول: ما شاء الله لا إله إلا الله، الحمد لله، أصبح جسمك قوياً، لماذا؟ لأن الراكب نزل، فالله عز وجل يُبعد الروح عن الجسد في النوم لكي يرتاح هذا الجسد.
يا إخوان! النوم آية من آيات الله، يقول الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الروم:٢٣] فلو أن النوم غير موجود ما كان الناس ليعيشوا، وتصوروا حالة الطلاب أيام الامتحانات كيف بهم إذا سهروا، وكذلك السائقين أيام المواسم، كيف تتحطم قوتهم؛ لأنه سهران ليلتين أو ثلاث، وبعضهم يتناول هذه الحبوب لكي يسهر ويدمر نفسه لكن الله جعل النوم سباتاً، (سباتاً) أي: قاطعاً لنا من دنيانا لكي ننام حتى نستطيع أن نعيش وأن نواصل السعي في حياتنا ونحن بأجسام طيبة، هذه -أيها الإخوة- هي الروح.