[الحكمة من خلق الإنسان]
إن قضية أن تعرف: لماذا خلقت؛ ولماذا جئت؛ معضلة ضل فيها كثير من الناس، ولا تغتروا بهؤلاء الكفار الذين سَبَحُوا في الفضاء، واخترعوا الذرة، ولهم منجزات وطائرات وعلوم حاسوب، لكنهم مساكين لا يعرفون من الحياة الحقيقية شيئاً، يقول الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:٧] يعني: شيئاً بسيطاً {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:٧] هؤلاء مساكين حُرِمُوا نعمة العلم بحقيقة الأمور، تسأل المخترع الكبير منهم فتقول له: لماذا خلقت؟ يفكر، فيقول: خلقت لأجل أن أعيش مع الناس.
- حسناً! لماذا تعيش؟ فيفكر وإذا به يقول: أعيش لكي آكل وأنكح.
- حسناً لماذا تأكل وتشرب وتنكح؟ - قال: لأجل أن أعيش؛ لأنني لو لم آكل لمت.
- حسناً ومن أجل ماذا تعيش؟ - من أجل أن آكل.
- حسناً ولماذا تأكل؟ - قال: من أجل أن أعيش.
وبعد ذلك يعيش ليأكل ويأكل ليعيش، حلقة مفرغة، وبعد ذلك؟ قال: أموت.
- حسناً لو أن الله خلقك من أجل أن تموت، لتركك ميتاً، يجعلك الله عز وجل تسعة أشهر في بطن أمك، وتعاني منك ثم يخرجك، وتعيش أربع عشرة أو خمس عشرة سنة، ثم تعيش في معاناة وفي تعب من أجل أن تموت؟!! لا والله، ما خلقك الله من أجل هذا، هذا عبث، بل خلقك الله لسر، وهنا -أيها الإخوة- يقول العلماء: إنه لا احتمال لخلق الإنسان إلا لغرضين: إما أنه خلق عبثاً، وإما أنه خلق لحكمة، هل هناك احتمال ثالث؟ لا.
إما أن الإنسان خلق عبثاً، أي: ليس له حكمة، أو أنه خلق لحكمة.
أما الاحتمال الأول أنه خلق عبثاً فقد أبطله الله وتنزه عنه، قال عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:١١٥] أظننتم أن الله خلقكم عبثاً، وأنكم لا ترجعون إلى الله، ثم قال عز وجل: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٦] تعالى الله أن يخلقك عبثاً، كيف يخلقك عبثاً بهذا التنظيم، وبهذه الدقة، وبهذا الإحكام، وبهذا الإعجاز؟ تفكر في نفسك في كل خلية من خلاياك، في كل ذرة من ذرات جسمك، في كل جزئية من جزئياتك، تجد أن هناك حكمة، هذه اليد لم تخلق إلا لحكمة، هناك ستة مفاصل، لماذا كانت ستة مفاصل؟ لأجل أن تستعملها يدك، لو أن الله أعطاك يداً ولا يوجد فيها مفصل، بل كانت قائمة، ماذا تصنع بها، هل تستفيد منها، وهل تستطيع أن تحمل بها شيئاً؟ لا.
لا شيء يمسك، لو أن الله لم يجعل يديك في مكانها وجعلها في أرجلك، ماذا تفعل عندما تريد أن تحك رأسك؟! لكن الله جعل اليدين في أعلى الجسم، تحك بها رأسك ورجلك سوى، من الذي جعل اليد هنا؟ إنه الله الذي ركب عيونك في رأسك.
لو أن الله وضع عيونك في أرجلك، وتريد أن ترى الذي هناك، لا بد أن تنقعر وترفع أرجلك حتى تنظر إليه، من الذي أجرى في عينك الملح؟ الآن عندما تأخذ من عينك دمعاً وتذوقه، تجد طعمه مالحاً؛ لأن عينك هذه شحمة ولو لم يوجد ملح فيها فإنها تعفن.
من الذي جعل في أذنك صمغاً مراً؟ إنه الله، فأنت عندما تنظف أذنك بالعود، خذ منه وتذوقه تجد طعمه أمرَّ من الصبر، لأجل أن الحشرات لا تدخل في أذنيك؛ لأنه إذا لم توجد هذه المادة المرة امتلأ سمعك بالحشرات، وعندما يأتي القمل وأنت نائم فإنه يشم الرائحة ويرجع؛ لأنه توجد هنا مادة صمغية تطرد هذه الحشرات.
حسناً من الذي أجرى في فمك اللعاب، الذي هو أحلى من العسل؟ من الذي حلى هذا، وملح هذا، وأمرَّ هذا؟ يقولون: الطبيعة العمياء الصماء البكماء، هل تستطيع أن تخرج ملحاً وصمغاً ومراً وعذباً؟!! من الذي جعل هذه الورشة في الفم لتقطيع الطعام، وتجهيزه وخلطه، وتقليبه، حتى يجهز الطعام، فإذا تجهز نزل، واستقبله المري، ويستعين بالبلعوم؛ لأن البلعوم يوصل الهواء والمري يوصل الطعام، وبين هذين الاثنتين قطعة لحم اسمها اللهاة، واسمها في العلوم لسان المزمار، هذه اللهاة تصدر أمراً إذا نزل الطعام أن تقفل فتحة الهواء، وإذا نزل الهواء أقفلت فتحة الطعام، ولو نزلت في فتحة الهواء حبة أرز أو قطرة ماء ماذا يحدث لك؟ وتموت، لكن هل تموت من شرقة؟ لا.
الذي حفظك أرسل إشعارات للرئة: إن هناك شيئاً غريباً دخل عليكم فأخرجوه، فيبدأ يسعل حتى يخرجها، لا إله إلا الله! من خلق هذا الخلق {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٥٠] هل خلقك عبثاً من أجل أن تموت، وتأكلك الدود في التراب؟ لا والله، يقول الله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:١١٥] تعالى الله، ويقول في آية ثانية: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص:٢٧] أي: لعباً وعبثاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:٢٧] ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:٣٨] أي: عبثاً {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:١٧ - ١٨].
إذاً الاحتمال الأول: أن الله خلق الإنسان، وخلق الكون عبثاً، هذا باطل؛ لأنك أيها الإنسان لا تفعل شيئاً عبثاً، فلو ذهبنا إلى شخص في مزرعته، وعنده جرافة، وصاحب الجرافة يحفر حفرة، وجاء أولاد فقالوا: يا أبي! ماذا تصنع بهذه الحفرة؟ قال الأب: أريد من صاحب الجرافة أن يحفر حفرة هكذا عبثاً، ماذا يقول له أولاده؟ يقولون: والله إن أبانا مجنون، ليس بعقله، يجعل الجرافة تحفر في المزرعة بدون غرض، هذا عبث، هل يعقل أن الله عز وجل يخلق سماوات وأرضاً وجبالاً وأشجاراً وأنهاراً ومجرات وكواكباً ونجوماً وبحاراً عبثاً؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
أجل كونه خلقنا عبثاً وخلق السماوات باطلاً إذاً لماذا خلقنا الله؟ لحكمة، ما هي الحكمة؟ نعرفها نحن؟ لا.
إذاً من يعرفها؟ الخالق؛ لأننا لم نخلق أنفسنا حتى نعرف الحكمة من ذلك! لو أنك خلقت نفسك فإنك تعرف لماذا خلقت نفسك، لكنك لم تخلق نفسك، الله الذي خلقك، والله الذي أتى بك، وما أخذ رأيك، إذاً من خلقك؟ الله، يا ألله لماذا خلقتنا؟ قال عز وجل في كتابه الكريم، فهو لم يدع الناس هكذا ضالين بدون هداية، وبدون عناية قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] فقط، إذاً هذه وظيفتهم، ما هي المهمة وما هو دورك؟ العبادة، الله خلقك من أجل أن تعبده، إذا عبدته فأنت صالح، وإذا لم تعبده فأنت فاسد؛ لأنك لم تؤد دورك، هذا (الميكروفون) ما دوره؟ تكبير الصوت، إذا كبر الصوت صار صالحاً، وإذا لم يكبر الصوت صار فاسداً، فنذهب به إلى المهندس.
الثلاجة دورها تبريد الطعام، إذا وضعنا الطعام فيها ولم تبرده، قلنا: الثلاجة فاسدة، وإذا برَّدت قلنا: الثلاجة صالحة.
هذا المكيف مهمته تبريد الجو، إذا اشتغل وبرد الجو قلنا: ما شاء الله مكيف صالح، وإذا لم يتشغل لم يبرد الجو قلنا: المكيف فاسد.
السيارة مهمتها حمل الركاب، إذا لم تمش نقول: السيارة فاسدة.
فأنت مهمتك العبادة، وإذا لم تعبد الله تصبح فاسداً، ماذا نعمل بك؟ نصلحك، وأين نصلحك؟ عند الذي يصلح (الميكروفون)، من هي؟ شركة (الميكروفونات)، والذي يصلح المسجلات شركة المسجلات، والتي تصلح السيارة شركتها التي صنعتها، وأنت يصلحك الذي صنعك، ما رأيكم إذا خرب (الميكروفون) وذهبنا به إلى صاحب البنشر، وقلنا له: أصلحه، فأخذه وقام بتشحيمه، وتعبيته زيتاً، هل يصلح أم يتعطل؟ يتعطل؛ لأنه ليس الذي صنعه، أنت إذا فسدت ذهبنا بك إلى غير الله، هل يصلحك؟ لا.
لا يصلحك إلا الذي خلقك.
حسناً أين علاجك وصلاحك؟ علاجك في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل أنزل عليك كتاباً لتعمل به، أي شركة تصنع ثلاجة أو سيارة أو مسجلة، أو أي شيء يضعون معه كتاب تشغيل، كيف تشغل هذا الجهاز، فإذا قمت بتشغيل الجهاز وفق تعليمات الكتاب بقي الجهاز سليماً، أما إذا قمت بتشغيل الجهاز على غير وفق تعليمات الكتاب صار الجهاز فاسداً.
فصلاح الإنسان -أيها الإخوة- إنما يأتي إذا عمل في حياته بموجب تعليمات خالقه، عينك تستخدمها في النظر فيما أحل الله من مخلوقات الله، وتغض عن محارم الله، إذا استعملتها فيما حرم الله، وعطلتها عن النظر في كتاب الله وفيما أحل الله، فإنها تصبح عيناً فاسدة.
هذه الأذن تستخدمها في سماع القرآن والحق، فإذا أسمعتها الباطل استعملتها على غير تعليمات خالقها.
هذا اللسان وظيفته ذكر الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول الحق، فإذا لم تستخدمه في هذا، واستخدمته في الأغاني واللعن والسب والشتم والنم والكذب -والعياذ بالله- استعملته على غير تعليمات الخالق، إذاً أنت أفسدت هذا الجهاز، وأفسدت نفسك، فأصلح نفسك والجأ إلى الله في إصلاح نفسك واقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا الله أن نطيعه، قال الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧].
أيها الإخوة: إن الهدف من وجودنا هو العبادة، أنت عبد، ولك شرف أن تكون عبداً؛ لأنك عبد لله، لست عبداً لدرهم أو لدينار أو لشهوة أو لنزوة أو لزوجة أو لأحد، بل أنت عبد لرب كل أحد، وهذه أعلى درجات العزة؛ لأن الله يقول: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:٩٣ - ٩٤] كل شيء عبد لله، لكن هناك عبودية قهر وإذلال، وهناك عبودية تشريف وتكريم وهي عبودية المسلم.
فيا أيها الإخوة في الله! إذا أردنا السعادة بحذافيرها، فلنعرف من نح