[الفرق بين المؤمن والكافر في النظر إلى الدنيا]
المؤمن يتميز بهذه البصيرة التي ينظر بها إلى الأمور، يعيش في الدنيا ويسكن في القصر ولكن بجسده وقلبه يعيش في القبر، يعيش على الفراش الوفير وهو يتذكر الكفن والحفرة المظلمة، يعيش في النور وهو يتذكر ظلمات القبور، يعيش مع الزوجة ومع الأبناء وهو يتذكر الوحشة في أول ليلة من ليالي القبر، يأتي على الإنسان في أول ليلة موحشة في قبره ما لم يتعرض له في حياته قط، يقال: يومان وليلتان ما مر عليهما الإنسان في حياته: أول ليلة في القبر وأول ليلة إما في الجنة وإما في النار، يقول:
فارقت موضع مرقدي ليلاً ففارقني السكون
القبر أول ليلة بالله قل لي ما يكون
إني أبثك من حديثي والحديث له شجون
يقول: أعطيك ما في قلبي وهو ذو شجون، يقول: أنا إذا غيرت مرقدي ليلة من الليالي في غير بيتي أتقلب طوال الليل، لماذا؟ قال: لأني غيرت موضع مرقدي، يقول:
القبر أول ليلة بالله قل لي ما يكون
كيف تلك الليلة يا إخواني! ونحن نعيش في غفلة عن هذا المصير، من الذي يعيش حياة القبور؟ إنهم أهل البصيرة، لا تخدعهم الفلل ولا العمارات ولا السيارات ولا الزوجات ولا غرف النوم، وإنما يعيشون هموم الآخرة قبل أن يصلوها، فيستعدون لها، ويعملون من أجلها.
أما البهائم البشرية فهم في غفلة، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:١٢] ويقول عز وجل: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:٤٦] ويقول عز وجل: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:٣].
فبالإيمان وبالبصيرة التي ينور الله بها قلب المؤمن تنضبط حياة الإنسان، يرى الآخرة، ويرى الجنة وما أعد الله فيها للمؤمنين فيعمل، ويرى النار وما أعد الله فيها للعصاة والمجرمين فيتوقف، لا يستطيع أن يقدم على المعصية، يدعى إلى الزنا فيقول: إني أخاف الله.
يدعى إلى الحرام فيقول: إني أخاف الله.
يدعى إلى الربا فيقول: معاذ الله.
لماذا؟ لأنه آمن بالنار فكأنما يراها رأي العين، ورأى الجنة كذلك فيقوم إلى عبادة الله، وإلى طاعة الله، بل يقوم إلى الموت في سبيل الله.
حنظلة بن عامر الأسدي رضي الله عنه وأرضاه (غسيل الملائكة) قام من على فراشة في ليلة عرسه ومع زوجته في أول ليلة يبني بها، وليلة الزواج يسمونها: ليلة العمر، كل شخص يخطط لها طوال حياته من أجل أن ينبسط فيها، يأخذ إجازة من العمل قبلها وبعدها يريد أن يرتاح، لكن حنظلة عنده نظرة للآخرة، لما سمع المنادي: يا خيل الله اركبي! قال لزوجته: أسرجي حصاني، فقامت تسرج الحصان، وهو يلبس آلة الحرب -السيوف والدروع- فركب على الحصان ولم يغتسل -خرج جنباً- فقاتل حتى استشهد، ويضحي بزوجته، ولكن الله يعطيه بدلها اثنتين وسبعين زوجة في الجنة، وفي آخر اليوم، يتفقدون القتلى فيجدونه وإذا برأسه يقطر ماء، والماء معدوم في المعارك، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (سلوا زوجته، فقالت: خرج وهو جنب، قال: والذي نفسي بيده إن الملائكة لتحمله وتغسله في صحاف من ذهب بماء المزن بين السماء والأرض) ما الذي جعله يقوم من جانب امرأته ويذهب يموت في سبيل الله؟ البصيرة، لكن لما عدمت البصيرة عند بعض الناس لا يقوم من فراشه ليصلي في المسجد، يسمع المنادي فوق رأسه: الله أكبر! وهو يتقلب كالخنزير على فراشه دون أن يصلي، لماذا؟ لأنه مطموس البصيرة، أعمى القلب، والله لو يعلم أن في المسجد مائة ريال لا ينام، لو قيل: لكل صلاة مائة ريال، هل هناك أحد سيترك صلاة بخمسمائة ريال في اليوم، وفي الشهر بكم؟ بخمسة عشر ألفاً، هذا راتب أفضل من أي راتب، لا أحد يتركها، لكن لو كان الجزاء الجنة (من غدا إلى مسجد وراح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا وكلما راح) فمن يأتي لهذه؟ يأتي لها الذين يرونها، يرونها بماذا؟ يرونها بقلوبهم، ما رأوها بأبصارهم ولكن رأوها ببصائرهم: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦] إذا عمي القلب فليس في الإنسان فائدة والعياذ بالله.
هذه البصيرة يرى الإنسان بها حقائق الأمور فيرتب أموره على هذا الوضع، ويعيش عيشة الإيمان.