[عداوة إبليس للإنسان]
أما إبليس فعداوته أزلية قديمة قدم الإنسان، منذ خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فرفض الشيطان أن يسجد حسداً لآدم وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:٦١] وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين} [الأعراف:١٢] فالله عز وجل لا يخطئ في حكمه {وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:٧٠] {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:٥٤].
إبليس نظرته مقلوبة، ورأيه منكوس، يقول: النار تأكل الطين فهي أفضل من الطين؛ فلا ينبغي أن تسجد النار للطين، قال الله له: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:٧٧ - ٧٨] ما زنا، ولا سرق، ولا لاط، ولكن خطّأ الرب، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين} [الأعراف:١٢] قال: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:٧٧ - ٧٨] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:٨٢] ثم قال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:١٦] أي: لأزينن لهم في الأرض، وقال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:١٧] قال الله لآدم: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه:١١٧] {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:٣٥] لا تقربا هذه الشجرة، كلا من كل ثمار الجنة، ولكن: من أرادها كلها أو حرمها كلها.
ولكي تعرفوا كيف يأتي إبليس إلى الواحد منا، جاء إلى أبينا آدم، وآدم أحبَّ الخلود في الجنة؛ لأنه ليس من أهلها بالأصالة، بل هو خلق طارئ غريب، وليس من الملائكة، وإنما هو قبضة من التراب، ونفخة من الروح من السماء، فيخاف الغريب باستمرار أنه يخرج من هذه الجنة، يريد داراً مملوكة له.
فأتاه إبليس من هذا الجانب وقال له: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:٢٠] وبعد ذلك حلف لهما: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:٢١] ولهذا لا تطع كل من يحلف لك أنه ينصحك؛ لأن إبليس حلف أنه ناصح وهو كاذب، وما كان آدم يظن أن أحداً يحلف بالله فاجراً، وبعد ذلك قال: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:١٢٠] إذا أكلت من هذه الشجرة تصبح من الملائكة! ولا تخرج منها! {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:٢٢] أي: بمكر وكيد وخديعة ودهاء {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف:٢٢] كل شجر الجنة أكله لا يترك أثراً إلا رشحاً كالعرق وله ريح المسك، إلا هذه الشجرة من يأكل منها لابد أن يخرج منه أذى، ولذا قال الله لآدم: لا تأكل منها من أجل ألا تخرج أذى، وجاء الشيطان بعد أن أكل {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:٢٧].
قال الله عز وجل: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:١٢٣] انزلوا جميعاً، فالعداوة ابتدأت في الجنة وانتهت بالاستقرار في الدنيا، والله يقول: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:١٢٣ - ١٢٦].
نزل آدم إلى الدنيا ورأى الدار غير الدار، كان عهده بالجنة وما فيها من الحور والقصور والأنهار، وإذا به يأتي إلى هذه الدنيا الدنيئة الحقيرة التي لم ينظر الله إليها منذ خلقها، والتي لا تزن عند الله جناح بعوضة، كما جاء في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) دنيا تافهة حقيرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (ما الدنيا في الآخرة -أي: نسبتها- إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم -أي: في البحر- فلينظر بم ترجع) ترجع بنقطة، هذه النقطة هي الدنيا والآخرة، ونحن نتطاحن عليها، ونضيع ديننا في هذه النقطة، ونتذابح ونتناحر في جناح البعوضة، ونترك جنة عرضها السماوات والأرض.
نزل آدم ورأى الدار غير الدار فصحح الوضع، قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:١٢١ - ١٢٢] تاب ورجع.
قال ابن القيم: (فحي على جنات عدن) يقول: أنت لست باقياً في هذه الدار، ولست مخلوقاً من أجل هذه الدار، نحن أصلنا في الجنة، وديارنا ومنازلنا في الجنة، وزروعنا وثمارنا وأنهارنا وزوجاتنا في الجنة، لكن العدو أخرجنا منها ولا بد من أن نرجع، يقول:
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم
يقول: إن الغريب إذا فارق بلاده ودياره فإن قلبه يتعلق بدياره حتى يعود إليها، مهما تمتع في الدار التي هو فيها، لا يريد إلا داره، وكذلك قلوب أهل الإيمان معلقة بالجنان، يعيشون بأجسادهم في الأرض وأرواحهم في السماء، أرواحهم تحلق في العرش، يريدون العودة إلى دار الكرامة والسعادة، نسأل الله من فضله.