[حقيقة النعمة]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، سيدنا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره وسار على دربه واتبع شريعته ودعا إلى ملته.
أما بعد: فسلام الله عليكم -أيها الأحبة- ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله جميع أوقاتكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المكان الطاهر، وفي هذه الليلة المباركة، وبعد أداء هذه الفريضة، وجمعنا على ذكره وعبادته بمنه وكرمه ورحمته، أسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنا في جناته جنات النعيم، وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وزوجاتنا وذرياتنا، وجميع إخواننا المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين.
أيها الأحبة: كلمة النعمة أخذت مفهوماً مغلوطاً وخاطئاً، إذ أنها إذا ذكرت لم يتبادر إلى أذهان الناس إلا النعم المادية؛ نعمة المال، والعافية في الأبدان، والزوجة والأولاد، والوظيفة، والعمارة، والمزرعة، والأموال، هذا هو مفهوم النعمة عند الناس، وهذا المفهوم غير صحيح، إذ أن هذه الأشياء التي نظنها نِعَمٌ هي في مفهوم الشرع متاع، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر:٣٩]، ويقول عن الكفار: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:٤٦]، ويقول عنهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:١٢]، ويقول عز وجل: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} [لقمان:٢٤] أي: في هذه الدار المحدودة القليلة {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:٢٤].
أما النعمة في نظر الشرع فليست هذه الأشياء، إنما هي نعمة الإيمان والدين والقرآن والهداية، من أنعم الله عز وجل عليه بهذه الأشياء فقد أنعم عليه بأعظم نعمة في الدنيا والآخرة، ولو لم يملك مالاً، ولو لم يحتل منصباً، ولو تعسرت عليه جميع أمور الدنيا؛ لأن هذه الدنيا ليست بشيء
فليست هذه الدنيا بشيء تسرك حقبة وتسوء وقتا
وغايتها إذا فكرت فيها كفيئك أو كحلمك إن حلمتا
وتطعمك الطعام وعن قليلٍ ستطعم منك ما منها طعمتا
تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررتا
ولست تطيق أهونها عذاباً ولو كنت الحديد بها لذبتا
هذه الدنيا نسبتها إلى الآخرة ضئيلة جداً، جاء ذلك في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (ما الدنيا في الآخرة -أي: ما نسبة الدنيا إلى الآخرة- إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم -أي: في البحر- ثم ينزعها) أدخل إصبعك في البحر وانزعها، وضع تحتها صحناً وانظر بم ترجع، إنها سترجع بقطرات، هذه القطرات هي نسبة الدنيا، وذاك المحيط هو نسبة الآخرة، أجل ليست شيئاً وأهل النار إذا دخلوا النار يخبر الله عز وجل عنهم أنهم يقسمون يقول عز وجل: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:٥٥] وتسألهم الملائكة: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:١١٢ - ١١٣] ليسوا متأكدين، {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:١١٣ - ١١٤].
إذاً: النعمة الحقيقية نعمة الدين، يقول عز وجل في آيات كثيرة في القرآن: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:٦٩]، هذا هو الذي أنعم الله عليه، من هو؟ الذي أطاع الله وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هم الذين أنعم الله عليهم؟ إنهم أربعة أصناف: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:٦٩ - ٧٠]، أي: هذه النعمة والفضل أن يجعلك طائعاً وعابداً له، وينعم عليك كما أنعم على هؤلاء الأصناف الأربعة: النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، ومَنْ غير هؤلاء؟ بقي اليهود، والنصارى، والفسقة، والعصاة، والمجرمون، والمنافقون، والكفار، والمشركون، ولماذا لم ينعم الله على هؤلاء؟ لأن هؤلاء مغضوب عليهم، ولهذا أمرنا الله عز وجل وفرض علينا في كل صلاة من صلواتنا بل في كل ركعة أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط مَنْ؟ قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:٧]، اللهم اسلك بنا صراطهم يا رب العالمين {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:٧] انتبه! فإنك في كل صلاة تقول: يا رب لا تسلك بي طريق المغضوب عليهم، وهم اليهود ومن شابههم ممن علم ولم يعمل، يقول سفيان بن عيينة رحمه الله: من تشبه من العلماء باليهود ولم يعمل ففيه شبه من المغضوب عليهم، أي شخص يعرف دين الله ولا يعمل به فإن الله يغضب عليه كما غضب على اليهود؛ لأنهم كانوا يعرفون هذا الدين كما قال عز وجل: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [الأنعام:٢٠]، ويقول الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة:٨٩] الدين معروف عندهم، {كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩]، {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:١٠٩] فغضب الله عليهم.
{وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٧] من هم الضالون؟ هم الذين يعبدون الله على جهل وضلال، وعلى غير هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء كثيرون جداً، أصحاب الطرق الصوفية يعبدون الله، تجد مع الواحد منهم مسبحة يسميها الألفية، وبعض المسابح الحبة فيها كبيرة ويطقطق بها ما هذا؟ قال: أسبح، من قال لك أن هذا تسبيح؟ وقد كنت وأنا أبحث في هذه المسألة في رسالتي (الدكتوراه) وكانت عن التصوف، فقرأت كلاماً لواحد منهم وهو يقول: لقد منَّ الله عليَّ بأن ذكرت ربي في جلسة واحدة مائة ألف مرة بذكر خاصة الخاصة لأن عندهم تصنيفاً للناس، هناك عوام العوام، أنا وأنت ذكرنا ليس شيئاً، لا إله إلا الله، أما هم فيقولون: لنا ذكر خاص ذكر الخاصة، وهو ذكر الله باللفظ المفرد: الله الله الله الله، الله كلمة فقط، لكن أين الصفة التي معها؟ هذه لا تفيد ذماً ولا مدحاً، وليس في الدين كله ذكر الله جل جلاله بالاسم المفرد، لا يوجد إلا سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، لابد من شيء مع الكلمة، هم يقولون: لا، الله فقط، لا نقول شيئاً غير هذا، لماذا؟ قالوا: هذا ذكر الخاصة.
أما خاصة الخاصة، وهم: الناس الذين يقولون عنهم: وَصَلَ، أي: وصلوا إلى جهنم، فهم مستعجلون عليها! قالوا: هؤلاء ذكرهم فقط هو ذكر الضمير، يقول: أنا لن أقول مثل قول العوام: لا إله إلا الله، ولا الخاصة الذين يقولون: الله، أنا أقول: هو هو هو هو، مائة ألف مرة، فقلت: أجرب كم سأستطيع أن أقولها، فقلتها تقريباً عشر مرات وإذا بي صرت أنبح مثل الكلب، من الذي يقول: هو هو هو؟ إنه الكلب، هذا ذكرهم، زين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسناً، هؤلاء يعبدون الله على جهل وضلال، ولا يقبل الله منهم عبادة إلا بشرطين: الشرط الأول: الإخلاص؛ أن يكون العمل خالصاً، وهذه متوفرة عندهم، نعرف أنهم مخلصون ليس عندهم رياء.
لكن الشرط الثاني معدوم عندهم، وهو: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذان الشرطان مأخوذان من كلمة التوحيد.