[تفسير آيات من سورة القيامة]
يقول الله عزَّ وجلَّ: {بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة:٥]، الإنسان حينما تهزمه الشهوات، وتطغى عليه الملذات والمنكرات، ويصبح عبداً ذليلاً أمام أحقر شيء فيه؛ أمام سيجارة، أمام أغنية، أمام نظرة من فاتنة زانية داعرة، أمام مجلة هابطة، أمام دنياً محتقرة يفجر وينسى الله، وتطغى عليه الذنوب، حتى تتراكم على قلبه، ثم يسود قلبه، ثم ينتكس، فلا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أُشْرِبَه من هواه، وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح مسلم، يقول: (تُعرض الذنوب على القلوب عوداً عوداً كالحصير، فأي قلب أُشْرِبَها -يعني: قَبِلَها، أحبها، رغبها- فأي قلب أُشْرِبَها نُكِتَت فيه نكتة سوداء -بكل ذنب نكتة سوداء- وأي قلبٍ أنكرها -من حين أن يرى المنكر يرده، يخاف من الله- نُكِتَت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين -لكثرة هذه المؤثرات، تنقسم قلوب البشر إلى قلبين- قلبٌ أسود مرباد -يعني: ليس سواداً سطحياً فقط، بل سواداً متراكماً، يعني: طبقات من السواد- مرباد كالكوز مجخياً -يعني: كالكوب أو الإناء المقلوب المنكوس- لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشْرِبَه هواه)، بل تنقلب عنده الموازين، فيعرف المعروف، ويجعله منكراً، ويعرف المنكر، فيجعله معروفاً، إذا رأى امرأة ينفتح قلبه، وإذا سمع أغنية يرقص، يلعب بعضهم إلى أن يصل إلى الملعب، الآن في السمرات إذا سمع الزير وبينه وبينه عشرة كيلو، وما لقي سيارة، جاء يمشي، وإذا قرب وسمع ضربات الزير أخذ يلعب وهو يسير، وهو لم يصل إلى الملعب بعد.
لماذا؟ أُشْرِبَه هواه -والعياذ بالله-، وإذا سمع القرآن قفز وضاق وحَرِجَ، كأنه في سجن؛ لأن القلب منكوس، والقلب أسود، فأصبحت الرؤية عنده غير واضحة.
ثم قال: (وقلب أبيض -اللهم إني أسألك من فضلك وإخواني المسلمين- وقلب أبيض كالصفا -أبيض ناصع كالصفا- لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) عنده صَدَّامات قوية، يضرب في أي فتنة فلا تؤثر فيه، لا يمكن أن يدخل فيه شيء، لماذا؟ لأنه أبيض، ويقول العلماء: إن سواد القلوب وبياض القلوب في الدنيا يترتب عليه سواد الوجوه وبياض الوجوه يوم القيامة: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:١٠٦] تَبْيَضُّ وجوه أهل الإيمان -جعلنا الله وإياكم منهم- وتَسْوَدُّ وجوه أهل الكفر والفسوق والعصيان -أجارنا الله وإياكم من طريقتهم-.
في هذا اليوم العظيم لا يستطيع أحد أن يهرب فيه من قبضة الله، والإنسان -كما قال الله- يقول في تلك اللحظات: {أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة:١٠] أين المهرب، {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:١١ - ١٣] يُخْبَر الإنسان وتُطْلَع أعماله عليه، فيرى فيها كل ما عمل من دقيق أو جليل، أو كبير أو صغير، في ليل أو نهار، كل شيء، حتى إن الواحد يقول -كما قال الله-: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:٤٩] يقولون: ما به؟ قد نسينا، وهذا ما نسي؟! يقول الله عزَّ وجلَّ: {أَحْصَاهُ اللَّهُ} [المجادلة:٦] وماذا؟ {وَنَسُوهُ} [المجادلة:٦] يقول: قد نسوا، الإنسان نسيَ، وكان الإنسان نسياً، أنت الآن في هذا اليوم ١٩/ ٢/١٤١٠هـ هل تذكر ١٩/ ١/١٤١٠هـ قبل شهر ما هو يومه؟ هل هو السبت أم الأحد أم الإثنين؟ لا تذكر، هل تذكر أنك صليت في المسجد أم لا؟ هل تذكر ما تغديت ذاك اليوم؟ هل تذكر مَن زرتَ ذلك اليوم؟ هل تذكر ماذا صنعتَ ذلك اليوم؟ لا تذكر؛ لكن الله يذكر ذلك، يقول الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:٦].
{يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:١٣] ثم يقول الله: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:١٤] أنت أبصر بنفسك، تريد أن تجد طيباً اعمل، الذي يريد بُراً يزرع بُراًَ؛ لكن من يزرع شوكاً ماذا تتصورون أن يجني؟ شوكاً، والذي يزرع حسنات وعملاً صالحاً وإيماناً خيراً يلقاه، يقول الله عزَّ وجلَّ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} [النمل:٨٩ - ٩٠] ماذا تتصورون أن يُعطى هذا؟! أيُعطى حسنة على السيئة؟! لا.
{فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل:٩٠] من جاء، المسألة منك، القضية والمبادرة من عندك، تستطيع أن تأتي بالطيب والخبيث، تستطيع أن تأتي بالعمل الصالح وبالعمل السيئ، والله لا يظلم أحداً شيئاًَ، هذا شغلك أنت، بضاعتك، الآن في السوق أناس يورِّدون بضاعة طيبة فيبيعونها، وأناس يورِّدون بضاعة خبيثة فيردونها، لا يشتريها منهم أحد، وكذلك أنت، الحياة هذه سوق، وأنت وردت إليها، فما تصدر منها؟ ومن الناس من يصدر بلعنة الله، ومن الناس من يصدر برضوان الله، من الذي يصدر بلعنة الله؟ الذي تعرض لسخط الله، ومن الذي يصدر برضوان الله؟ الذي تعرض لمراضاة الله، وليس في الناس إلا أحد رجلين: رجلٌ قضى حياته وقطع مراحل عمره متزوداً بالمراضي، متنقلاً بين الأوامر ومبتعداً عن النواهي، يحب الله، ويحب رسوله، ويحب كتاب الله، ويحب بيوت الله، ويحب عباد الله المؤمنين، ويسير وفق محبة الله ورسوله، هذا هنيئاًَ له، هنيئاً له، ثم هنيئاًَ له.
وآخر -والعياذ بالله- يعيش حياته ويقطع مراحل عمره متزوداً بمساخط الله -والعياذ بالله-، يبغض الله، ويبغض كتاب الله، وبيوت الله، وأولياء الله، هذا -والعياذ بالله- ويل له، ثم ويل له، ثم ويل له: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:٢٢].
{بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:١٤] أنت أبصر بمصلحتك، الآن والرجل منا يأتي مسرعاً، يفاجأ وهو يسير في الطريق بأن إشارة المرور أضاءت اللون الأحمر، يعني ماذا؟ يعني: قف، أليس كذلك؟ وإذا ما وقفت ماذا يصير؟ مخالفة، وتترتب على المخالفة ماذا؟ أن رجل المرور يطاردك بالسيارة، أو بالدراجة النارية، ويقول: على جنب يا صاحب السيارة، وبعد ذلك تنزل ووجهك خجلاً وحالتك ضعيفة، ثم يقول لك: هات الرخصة، ينزرك نزراً لماذا؟ لأن مركزك ضعيف، نقطة الضعف عندك أنك قطعت الإشارة، أنك خالفت التعليمات، ما احترمت النظام، ولهذا فإن نقطة الضعف هذه جعلتك ضعيفاً في الدنيا أمام جندي ربما هو مسكين، وربما أنك مدير أو في وضع اجتماعي كبير؛ لكن غلطتك جعلتك تقف هذا الموقف المخزي أمام هذا الرجل، يقول: هات الرخصة، هات الاستمارة، فينظر فيها، يريد أن يرى عليك ثغرة، إن كان ما عندك رخصة يا ويلَك! وإن كان عندك استمارة ومطوِّلة يا ويلَك! وإن كان عندك رخصة لكن المدة منتهية يا ويلَك! فإذا ما رأى عليك شيئاً وأنك تمشي برخصة واستمارة، قال: لماذا تقطع الإشارة؟ ماذا عندك من عذر؟ أتقول: مستعجل؟! حسن والناس هؤلاء أما هم مستعجلون؟! أرواح العباد، ممتلكات العباد، أما ينبغي أن تُحترم، ويبدأ يهزئك، وأنت لا تقول له إلا: حاضر، آسف، أعتذر، هذه آخر مرة، وكفى، أنا مستعجل، أنا ما قطعتها إلا لأني مستعجل، فيقول: مستعجل؛ لكن الآن نروضك، لو أنك تأخرت نصف دقيقة أو دقيقة كنتَ مشيتَ بسلام؛ لكن عجلتك أخذتك إلى هذا الموقف، خذ، هذه قسيمة -ثلاثمائة ريال- وبعضهم يخاف من أن يكتب القسيمة، ويظل يسلم على رأس العسكري، وبعضهم يرمي غترته عند العسكري، وقد كان لك من هذا فكاً لو أنك وقفت عند الإشارة حتى تكون خضراء ثم تسير آمناً.
هذا في الدنيا الآن، طَيِّبٌ! والذي لا يقف عند إشارة الرب تبارك وتعالى؟! هناك أيضاً في الأوامر إشارات حمراء، وهي: المحرمات.
وإشارات خضراء، وهي: الطاعات.
والمؤمن يقف عند الإشارة الحمراء، لا يمكن أبداً أن يعمل شيئاً، لماذا؟ يخاف، ليس من جندي المرور، بل يخاف من رب السماوات والأرض، ويخاف من الجندي الذي يطلبه حق الطلب، من هو؟ إنه ملك الموت، الذي لا يعرف أحداً، لا يمتنع منه مانع أبداً، يقتحم الأسوار، يدخل القصور، يأخذ أصحاب الأموال، وأصحاب الملك، وأصحاب العضلات، مَن يمتنع مِن الموت؟! لا أحد، هذا الجندي يأتي بك.
وبعد ذلك تحاسب يوم القيامة على ضوء قطع إشاراتك الربانية التي قطعتها، وتطلب: يا رب! كما قال الله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:٩٩] ردُّوني ولكن لماذا؟ قال: {أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:١٠٠]، لن أقطع الإشارات يا رب، {أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:١٠٠]، قال الرب عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:١٠٠ - ١٠١].
وأمر البعث -أيها الإخوة- سبق الكلام عليه في عدة دروس، باعتباره ركناً من أركان الإيمان.
وقد بدأنا الدروس في أبها منذ سنة تقريباً في العقيدة بأركان الإيمان: الركن الأول: الإيمان بالله.
الركن الثاني: الإيمان بالملائكة.
الركن الثالث: الإيمان بالكتب.
الركن الرابع: الإيمان بالرسل.
الركن الخامس: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
ووصلنا إلى الركن السادس وهو: الإيمان بالبعث بعد الموت.
ودرس هذه الليلة سيكون عن علامات الساعة المستمرة.
وقد قلنا في الماضي: إن هناك فوائد من دراسة علامات الساعة: منها: الاستعداد.
ومنها: قوة ا