[فضل تعلم القرآن وتعليمه]
أذكر سنة (١٣٩٠هـ) يعني قبل تسعة عشر عاماً جاءنا فضيلة الشيخ عبيد الله الأفغاني ليعمل مراسلاً من قبل الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في مكة، وكنت قد اتصلت أنا والشيخ سليمان بن فايع في تلك السنة بالشيخ صالح القزاز الأمين العام للجماعات في مكة وقلنا له: نريد مدرساً مثل أهل هذا المسجد، قال: أين تريدونه؟ قلنا: في أبها، وفعلاً لا يوجد في أبها تلك الأيام أحد يعرف التجويد، أما الأحكام -ما شاء الله- أنا أعرفها، أحكام النون الساكنة درسناها في رابع أو خامس ابتدائي، لكن تطبيق الأحكام والله ما أدري عنها شيئاً، حروف الإدغام ستة مجموعة في قولك: يرملون، وحروف الإخفاء خمسة عشر مجموعة في أوائل هذا البيت:
صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سمى دم طيباً زد في تقى ضع ظالما
والله إنها طلاسم ما أعرف عنها شيئاً، لكن أحفظها لكي إذا أتيت إلى الأستاذ والاختبار الشفوي أقول هذا الكلام فيقول: ناجح في التجويد؛ لأن الأستاذ نفسه الذي يختبرني لا يدري ما هي، أحكام موجودة لكن لا نعرف شيئاً من التطبيق فقلنا للشيخ صالح القزاز: نريد مدرساً، قال: ومن يأتيكم في أبها؟ فقلنا: ابحث، فشاء الله أن عرض الأمر على الشيخ عبيد الله الأفغاني ورفض الشيخ في أول الأمر، وكان يقول: أنا هاجرت من بلادي؛ لكي أعيش في الحرمين الشريفين، فكيف أذهب إلى أرض بعيده غير الحرمين، هذا لا يمكن، ولكن يسر الله رجلاً صالحاً كان جالساً في الحلقة اسمه صالح باخطبة قد توفي رحمة الله تعالى عليه، قال له: أنت مخطئ يا شيخ! كيف تجلس في الحرمين الشريفين، وتترك الدعوة إلى الله، والصحابة لما بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أقطار الأرض لم يقولوا: لا.
نريد الحرمين الشريفين مكة والمدينة وإنما ماتوا في السند والهند، وكنت أنت ممن أدخل الله آباءك وأجدادك على أيديهم، ولو أنهم جلسوا في الحرمين الشريفين لكان من الممكن ألا تكون مسلماً، يقول: فدخل الكلام في رأسي، قلت: نعم صدقت، قال: الآن رُدّ الجميل للذين أتوكم في بلادكم، وأدخلوك في الدين، وواجبك الآن رد بعض الجميل بتعليم أبنائهم القرآن، فتوكل على الله واذهب إلى أبها، فقلت: إن شاء الله، وفعلاً جاء يوم من الأيام ونحن في دار التعليم خرجنا نصلي الظهر وإذا الرجل جالس بعائلته وأثاثه في المسجد وسط (الصوح)، ولما دخلنا رأينا الرجل بهيئته وعمامته، وهو يسأل ومعه خطاب لـ سعيد بن مسفر وسليمان بن فايع، فقلنا: من أنت؟ قال: أنا مدرس القرآن.
قلنا: جزاك الله خيراً، أخذناه في ذلك اليوم وأسكنّاه في بيت، وبعد ذلك سلمناه الطلاب في مسجد برزان -أظن- عشرين طالباً، وجلس الشيخ الأفغاني بعلمه وغزارته -عالم في كل فن ما شاء الله- حوالي أسبوعاً أو أسبوعين وما عنده إلا الأطفال هؤلاء، والشيخ سليمان كان يصلي بنا أحياناً، ولا يجود القرآن، ولكن الشيخ مؤدب ويستحي أن يقول شيئاً.
وفي يوم من الأيام ونحن جلوس في المسجد قال لنا: لا يوجد طلاب آخرون غير الأطفال هؤلاء يقرءون القرآن علينا؟ قلنا: لا يوجد إلا هؤلاء، من تريد يقرأ عليك؟ قال: أنتم اقرءوا القرآن، قلنا: نحن نقرأ القرآن عليك؟! يعني كيف نحن العلماء نقرأ القرآن عليك!! قال: وما المانع؟ قلنا: نحن نعرف القرآن، قال: أنتم صحيح تقرءون القرآن؛ لكن لا تجودون، قلنا: والتجويد نعرفه يا شيخ! أخذناه في رابع أو خامس ابتدائي قال: إذاً بعد الصلاة إن شاء الله نجلس قليلاً، صلينا وجلسنا قليلاً ويوم أن جلسنا قال: اقرأ وكنت أنا وسليمان فقرأتُ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: قف، قال: (الشيطان) الشين من حروف التفشي، والطاء من حروف الإطباق، و (بسم) السين من حروف الهمس، وإذا بي في بحور لا أدري أين طرفها، قال: أنت -أعوذ بالله من الشيطان الرجيم- أخطأت فيها، و (بسم الله الرحمن الرحيم) أيضاً أخطأت فيها، ووقفنا في تلك الليلة في (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وبسم الله الرحمن الرحيم) وجاء في الليلة الثانية وسمح لنا بالانتقال إلى الفاتحة، وجلسنا في الفاتحة أكثر من خمسة عشر يوماً، ثم بعد ذلك سمح لنا بالانتقال من عند الضحى، ولما رأينا أننا جهلة، لا نعرف شيئاً في كتاب الله جلسنا عند الشيخ، ولكن لم يكن أحد تلك الأيام عنده، ويمدح السوق من ربح فيه، فلم يدرس عنده إلا أنا وسليمان والشيخ أحمد بن حسن وواحد اسمه أحمد بن عبدالله الشهري، هؤلاء الأربعة الذين استغلوا وجود الشيخ، وكان فارغاً في أكثر أوقاته وجلسنا نقرأ عليه أربعة أشهر حتى ختمنا رواية الإمام حفص وشعبة عن الإمام عاصم بن أبي النجود.
الشاهد في الموضوع أن كثيراً من الناس لا يتقنون التجويد، وإذا قلت له: اقرأ على الشيخ، قال: لماذا أقرأ؟! أقرأ وأنا شايب! يرد عليَّ في الفاتحة! إذاً ما رأيك: يصحح لك في الفاتحة، أو تموت وأنت أعمى في الفاتحة وتلقى الله وأنت لا تعرف تقرأ الفاتحة؟! ما هو العيب؟! إن العيب أن تلقى الله وأنت جاهل: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:٧٢].
فما دامت -أيها الإخوة- الحجة قد قامت عليكم في هذا المسجد أو في غير هذا المسجد؛ لأنه قد يكون من الجالسين كثير ليسوا من أهل هذا المسجد لكنهم ربما في أماكنهم وفي المساجد القريبة من مساكنهم مدارس لتحفيظ القرآن الكريم، أو بإمكانهم الذهاب إلى المدرس في أي مسجد من مساجد المدينة فإنه لا ينبغي له إلا أن يسارع إلى تسجيل اسمه والجلوس على الشيخ، وليس بالضرورة أن يجلس من المغرب إلى العشاء، لا.
اجلس اسمع درسك وامش، إن كان هناك إمكانية من بعد المغرب مباشرة وإن كان شخص سبقك وسجل قبلك، ورأيت أنه لا يسمع لك إلا بعد فترة فيمكن أن تقضي لك عملاً؛ لكن بمجرد قرب الموعد الذي يكون فيه درسك تأتي وتجلس، واجلس مرة ومرتين وثلاثاً وسوف تذوق طعمها إن شاء الله وحلاوتها إذا أصبح لسانك رطباً بذكر الله؛ لأنه ورد في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة).
مرتبة ليست بسهلة، فهي أعظم من أي منزلة، وأيضاً في الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم حديث عثمان رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) إذا جلست بركبك عند إمام المسجد أو عند معلم القرآن، وأنت تتعلم وهو يرد عليك مرة ومرتين وثلاثاً، فأنت في خير عمل، وفي أشرف شيء في الدنيا، وفي عمل أفضل من عمل الملوك والرؤساء والأمراء والوزراء، فخير هذه الأمة على الإطلاق من تعلم القرآن وعلمه، فالمتعلم له خير والمعلم له خير إن شاء الله، هذا بالنسبة للكبار.