[اتقاء المحارم أعلى درجات العبادة]
هناك من يعبد الله في أعلى الدرجات، أي: يوجد رجل عابد ويوجد رجل أعبد، وأعبد هنا صيغة تفضيل، تقول: فلان كريم وفلان أكرم، فلان شجاع وذاك أشجع، فكذلك العبادة، فلان عابد وفلان أعبد.
كيف تكون أعبد الناس؟ دلك النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح كلمه وجوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ في السنن قال صلى الله عليه وسلم -والعنوان طرف من حديث-: (اتق المحارم تكن أعبد الناس).
فيا من تريد أن تكون عابداً اتق المحارم؛ لتكن أعبد الناس! وطبيعي عندما تكون أعبد الناس فإنك تكون أفضل الناس، وتنجو في الدنيا والآخرة، لماذا؟ لأنك أعبد الناس.
وصيغة (أفضل) جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين؛ عندما أراد بعض الصحابة أن يتعلم عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إلى أهله وسألوا عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وليست بقليلة فقد كان صلى الله عليه وسلم أعبد الناس، ولكن الصحابة من شدة الإقبال على الله كأنهم رأوا أنها قليلة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فنحن لم يغفر لنا! إذن نزيد؟ فقال أحدهم: أما أنا فلا أنام الليل أبداً.
يقول: الليل هذا لا ننام فيه؛ الليل للنوم ولكن نجعله للعبادة وللوقوف بين يدي الله جل وعلا، وقال الآخر: وأنا لا أفطر الدهر أبداً، وهذا الحديث يبين أن قدرات الناس تختلف؛ لأن بعض الناس لا يستطيع أن يقوم في الليل حتى ركعة واحدة ولكنه يستطيع أن يصوم، وبعضهم لا يستطيع أن يصوم يوماً واحداً ولكنه يستطيع أن يصلي، وبعضهم لا يستطيع أن يصوم أو يصلي ويستطيع أن يتصدق، وبعضهم لا يستطيع أن يتصدق ولكنه يستطيع أن يقرأ القرآن، ولهذا الله سبحانه وتعالى عدد مسارات العمل الصالح ليجد كل مسلم طريقاً إلى الله، قال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء أبداً، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر جمع الناس، وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأعلمكم بالله، وأطوعكم لله، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
فأعبد الناس على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت -أيها المسلم- إذا أردت أن تكون من أعبد الناس فعليك بشيء واحد وهو: اتقاء المحارم.
فليس أعبد الناس من يكثر الصلاة، أو الصدقة، أو الصيام، أو الحج والعمرة، أو يعلِّم الناس الخير ويدعو إلى الله، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحب في الله ويبغض في الله، ويعمل أعمال الخير، هذا لا شك أنه عابد، لكن أعبد الناس من يتقي محارم الله، أي: لا يقع في شيء من الحرام، ولماذا كان هذا أعبد الناس؟ قال العلماء: لسببين رئيسيين: السبب الأول: أن الله عز وجل إنما شرع تلك العبادات من أجل إمداد الإنسان بطاقة إيمانية تعينه على ترك المحرمات، ولهذا قال الله عز وجل عن الصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ} [العنكبوت:٤٥] ماذا تعمل؟ {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:٤٥] ولهذا أنت تصلي من أجل أن تنتهي عن الفحشاء، فإذا صليت ولم تنته عن الفحشاء فأنت تمثل فقط، وفرق بين من يمثل وبين من يؤدي الدور الحقيقي، فأنت تخدع نفسك وتضحك على نفسك: {إِنَّ الصَّلاةَ} [العنكبوت:٤٥] و (إن) مؤكدة.
والصلاة الحقيقية، هي الصلاة المؤثرة، والفاعلة، والمقبولة، والتي عملت عملها فيك فتنهاك عن الفحشاء والمنكر، وأما الشخص الذي ما نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر فكأنه ما صلى، وهذا رفعت عنه صلاته عقوبة في الدنيا ولا نستطيع أن نقول: إنه كافر؛ لأنه صلى، لكن بإتيانه للفحشاء والمنكر مع صلاته لم ترفع عنه صلاته، فتعرضه هذه الصلاة لعقوبة الآخرة؛ لأنه لو كان مصلياً حقيقياً لنهته صلاته عن الفحشاء والمنكر.
وكذلك الحج: فهو ركن مثل الصلاة؛ لأن الله سبحانه شرعه وقال فيه: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:١٩٧].
الصوم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) وجميع الشعائر التعبدية فرضها الله سبحانه وتعالى من أجل أن تمدك وتربيك -أيها الإنسان- وتؤهلك وتجعلك قادراً على مواجهة المحرمات فلا تقع فيها هذا سبب.
والسبب الثاني وهو المهم: أن هذه المحرمات التي حرمها الله تعالى على الناس في النفس البشرية مَيْل إليها ورغبة فيها؛ لأن الله خلق في الإنسان غرائز تميل إليها، فمثلاً: الزنا محرم وفاحشة، والله يقول فيه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:٣٢] وشرع للزاني أشنع قتلة وأشنع عقوبة؛ إن كان محصناً يرجم حتى يموت، وإن كان غير متزوج يجلد بالعصا جلداً مبرحاً مؤلماً {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:٢] مائة سوط، لماذا نضرب الزاني؟ قالوا: لأنه تخلق بأخلاق الحمار، ونسي أنه إنسان ومسلم، وأنه يجب أن يكون عفيفاً، فهبط ونزل إلى درجة الحيوانية، فنجلده مائة سوط ولا نرحمه، كي نخرج الحيوانية من رأسه ويعرف أنه رجل وليس حماراً: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:٢].
فهذا الزنا؛ الفاحشة الكبرى، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عصي الله بذنب بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرج لا يحل له) (ومن زنى بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة) (والذي نفس محمد بيده! إن ريح فروج الزناة ليؤذي أهل النار) (والذي نفس محمد بيده! إن فروج الزناة لتشتعل ناراً يوم القيامة) وفي صحيح البخاري من حديث سمرة قال: (ثم أتينا على تنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، وفيه رجال ونساء عراة يأتيهم لهب من تحتهم، فيرتفعون وينخفضون، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني من أمتك).
هذا هو الزنا الذي تميل له النفس، لماذا؟ لأن الله عندما خلق الإنسان وخلق الرجل والمرأة جعل في الرجل ميلاً إلى المرأة وجعل في المرأة ميلاً إلى الرجل، لبقاء الجنس البشري، إذ لو كان الرجل لا يريد النساء، والنساء لا يردن الرجال لبقي الرجل في جانب والمرأة في جانب، وكلما قيل للمرأة تزوجي، قالت: لا أعرفهم، وأنت تزوج قال: لا أعرف النساء، وبعد ذلك تموت المرأة ويموت الرجل، وتنقرض البشرية ولا يبقى أحد في الحياة.
فالله جعل عند الإنسان ميلاً، فلا يوجد رجل إلا ويحب النساء، ولا امرأة من النساء إلا وتحب الرجال، لكن هذا الميل بحيث يلتقي الرجل بالمرأة عند نقطة شرعية اسمها الزواج، وحرم كل لقاء قبله أو بعده في الحرام، فقط الزواج، فيأتي الشيطان فيستغل هذا عند الإنسان، فيزين له الحرام ويوقعه في الباطل، فإذا قام الإنسان ومنع نفسه من الحرام كان هذا هو العابد الحقيقي، أي: الذي عنده رغبة في الزنا ثم يمتنع منه خوفاً من الله فهذا هو العابد الصحيح.
فإذا صليت الآن فلا يوجد مانع من أن تصلي، بل المؤيد في نفسك أن تصلي؛ لأن الصلاة حركة، فقد يقول لك شخص: الصلاة جيدة، فيها ركوع وسجود ومشي وذهاب إلى المسجد وعودة منها، وخطوات ورياضة وتغيير جو؛ بمعنى أنها فائدة، والصيام أيضاً عملية صحية، والحج أيضاً رحلة ونزهة وتمشية، لكن الزنا من يتركه؟ ما يتركه إلا من يخاف الله! ولهذا جاء في الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله -يوم القيامة- يوم لا ظل إلا ظله منهم: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -أي: إلى الزنا- فقال: إني أخاف الله رب العالمين).
هنا يوجد الإيمان، ولذا فالناس الآن يقيسون بهذا المقياس، فإذا رأوا رجلاً متديناً تظهر عليه علامات التدين والصلاة والصيام والعمل الصالح، ثم يرقبونه في مواطن الاحتكاك بالنساء، فإذا رأوه ينظر إلى النساء وهو المتدين، ماذا يقول الناس؟ يقولون: انظروا إلى هذا المطوع الكذاب، كيف ينظر إلى النساء، فعلموا أن تدينه غير صحيح؛ لأنهم قاسوه بالحرام، فلما وقع في الحرام قالوا: كذاب.
فهذه الميول النفسية إلى الحرام التي ترفضها وتحجزها وتستعلي عليها وتنتصر بنفسك عليها دليل على أنك أتقى الناس، وأعبد الناس.