أيها الإخوة! لقد كانت وظيفة الأنبياء والرسل من أولهم إلى آخرهم بيان الحكمة التي من أجلها خلق الله الناس، ما جاء نبي يدعو الناس إلى الإيمان بوجود الله؛ فإن وجود الله مما استقر في فِطَرِ الناس، فقد فَطَرَ الله الناس على الإيمان بوجوده، يقول الله:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الروم:٣٠] إن الله حينما خلق الإنسان فطره على الإيمان به، ولهذا (كل مولود يولد على الفطرة) فطرة الإسلام، لكن المسخ والتغيير يأتي من المؤثرات، وعَبَّر الحديث بقوله:(فأبواه) لأن التأثير الأكبر إنما هو للأبوين، لكن اليوم لم يعد الأبوان فقط، بل الأبوان وشياطين كثر يؤثرون في حياة الناس.
فالأنبياء والرسل كل رسالاتهم تبين لماذا خلقك الله، يقول عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:٢٥] ويقول عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}[النحل:٣٦] ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦] والحصر بين (ما) و (إلا) يفيد أن الغرض هو العبادة فقط، ما خلَقَنا الله لنأكل ونشرب ونتوظف ونبني ونتزوج بل لنعبد الله فقط، ولا يعني هذا أننا لا نأكل ولا نشرب ولا نتزوج أو نتوظف لا، نحن نأكل ونشرب ونتزوج وندرس ونتوظف ونبني ونسكن لنعبد الله، كل هذه إنما هي وظائف جانبية أو هامشية مساعدة تُسخر لخدمة الغرض الأساسي وهو العبادة، لكن -وللأسف الشديد- انشغل الناس بالأهداف المساعدة عن الهدف الأساسي الذي من أجله خلق الله الإنسان.
وأذكر أنني كنت قبل سنوات مسافراً من أبها إلى مكة عبر طريق الساحل، ثم وقفت أتزود بالوقود من إحدى المحطات، وبينما أنا أقف وإذ بي أحس بالسيارة ترقص! فنظرت فإذا تسجيلات غنائية ينبعث منها موسيقى غربية يسمونها (الديسكو) عبر سماعات من أضخم ما يكون ترج الأرض رجاً، وإذا بسيارتي ترقص وأنا أرقص، فأطفأت السيارة ونزلت وقصدته، فلما رآني خفض صوت الموسيقى، وأنا أرى الأشرطة تتراقص على الرفوف من قوة الصوت، فلما دخلت سلمت عليه ورد علي، قلت له: يا أخي! يقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا}[الذاريات:٥٦] وسكتُّ! فقال: {لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦] قلت: أأنت متأكد؟ قال: نعم.
قلت: إلا ليعبدون أو إلا ليلعبون؟ قال: أستغفر الله يا شيخ! {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦].
قلت: أسألك بالله لو كان هكذا كما تفعل أنت يكون إلا ليعبدون أو يلعبون؟ فسكت.
قلت: أخبرني؟ قال: لا والله -يا شيخ- يلعبون.
قلت: ليتك تلعب بمفردك، إنك تلعب وتجعل الأمة تلعب، ما من شريط يباع من دكانك هذا إلا وعليك إثمه إلى يوم القيامة، إن الله خلق الناس للعبادة وأنتم جعلتموهم يلعبون ولا يعبدون الله.
قال: حسناً، وماذا أصنع يا شيخ؟ قلت: يا أخي غيِّر هذا النشاط، مجالات الرزق كثيرة، أما وجدت إلا هذا المجال الخبيث الذي يضر دينك وعقيدتك، تصرف الناس عن الله، وتقطع الطريق بين العباد وبين خالقهم، وتنشر الباطل؟! قال: إن شاء الله.
وذهبت وتركته.
ومرت سنوات وأتيت في مناسبة أخرى، وتعمدت أن أقف عند تلك المحطة لأرى أتلك البذرة نفعت أو لم تنفع؟ ووقفت ونزلت إلى الدكان، وإذا ببقالة وإذا بالرجل نفسه، فسلمت عليه، ولم يعرفني، قلت: يا أخي الكريم! يقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا}[الذريات:٥٦] وسكتُّ! قال: هو أنت؟ قلت: هو أنا، ويقبل عليَّ ويسلم عليَّ، ويقول: جزاك الله خيراً يا شيخ! والله من ذلك اليوم ما بعت شريطاً واحداً، وقد خلف الله علي برزق وبركة وأمن وراحة في قلبي، من قبل كنا -والله- بالفعل نطرب ونسمع الأغاني ونكسب، لكن هنا شيء مثل النار في قلبي لست راضياً عنه -يعرف أن هذا العمل سيء وأنه سوف يُسأل عنه إذا مات- لكن الآن قلبي مستريح مطمئن، لا أبيع إلا الحلال ولا أمشي إلا في حلال.