[كلمة توجيهية لاستغلال ليالي رمضان]
السؤال
فضيلة الشيخ! لم يبق على شهر رمضان المبارك سوى أيام قليلة، ولكن وللأسف كثير من الشباب هداهم الله، يستعدون لقضاء لياليه الكريمة في السهرات الباطلة، والبعض الآخر يستعد للسفر لبلاد الكفر في آخر الشهر لقضاء إجازة العيد بين الفاجرات وارتكاب المعاصي، فما هي نصيحتكم لإخواننا هؤلاء؟ وما هو توجيهكم لاستغلال مثل هذه الليالي المباركة؟
الجواب
شهر رمضان موسم من مواسم الخير، وفرصة من الفرص الربانية التي يتيحها الله عز وجل للمؤمنين للدخول عليه من أوسع باب ومن أسهل طريق، وكان السلف يسألون الله عز وجل أن يبلغهم رمضان، يقولون: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان.
يقول الناظم:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
ها قد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
أتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سلف من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً فما أقرب القاصي من الداني
ومعجب بثياب العيد يقطعها فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه؟ مصير مسكنه قبر لإنسان
ولقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح برغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له، عندما صعد المنبر فقال: (آمين آمين آمين، قال الصحابة: لم يا رسول الله تقول آمين؟ قال: جاءني جبريل فقال: رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له) شهر رمضان تغلق فيه أبواب النيران، وتفتح فيه أبواب الجنان، وتغل فيه مردة الشياطين، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر! وتضاعف فيه الحسنات، وبعد ذلك تسهر للشر؟ يقولون: نحييه، أتشكل لك جماعة شر من أجل أن تحيي ليالي رمضان؟! أهكذ يكون إحياء رمضان؟! لا.
إنما أحياؤه بالقيام وبالعلم، وبتدبر وتلاوة كتاب الله، أما إحياؤه بالورق والبلوت والجراك والشمة والدخاخين والسهرات القاتلة، فهذا إماتة لرمضان والعياذ بالله.
فإذا جاء رمضان شكل لك جماعة، لكن جماعة إيمانية، كل ليلة عند شخص على شيء من علم، اليوم تفسير، وغداً حديث، وبعده فقه، وبعده توحيد، وهكذا أما اليوم على البلوت، وغداً على الورق، وبعده على الكيرم، فهذا لا يجوز.
وأما من يذهب إلى خارج المملكة ليأخذ عمرة؛ لأنه ورد في صحيح البخاري: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) فالعمرة إلى مكة، لكن من يأخذ عمرة ويخرج خارج المملكة، ليقضي على دينه في الخارج! هذا لا يأخذ عمرة، بل يبيع عمره يضيعه والعياذ بالله، نقول له: اتقِ الله في نفسك! واتقِ الله يا ولي أمره! وإذا لم تخرج أنت وخرج ولدك فالمال الذي خرج به ليزني أو ليسكر والله إن إثمه كله في رقبتك.
وقد أتانا في رمضان الماضي أحد الأثرياء في أبها ودخل معنا في المسجد يصلي، وبعد الصلاة دعاني فقال لي: هيا معنا، قلت له: وأين تسكن؟ قال: أسكن في شقة من الشقق التي للمصيفين، قلت له: الحق أن تأتي معي، قال: ما في حق ولا حقوق، نحن جيران المسجد، فدخلت عنده من باب الإكرام له، وكنت غير مشغول في تلك الليلة، وإذا جماعته الذين معه كلهم أصحاب دنيا، ملايين، فضاق صدري، وأصبحت مثل الطائر في القفص، أريد ذكر الله وهؤلاء ليس عندهم إلا الأراضي والعقارات، قلت: يا أخي.
قال: نعم.
قلت له: أنت من أهل الملايين؟ قال: نعم.
قلت: أحسن الله عزاك في حياتك! وأين ملايينك؟ قال: الحمد لله في خير، قلت: كم بنيت من مساجد؟ قال: لا شيء.
قلت: كم أرسلت للمجاهدين؟ قال: لا شيء إلا الزكاة، كم كم وأخذت أسأله، ثم قلت له: أين أولادك؟ قال: عندي أولاد في الرياض وأولاد في فرنسا.
قلت: ما يفعلون؟ قال: يصيفون.
قلت: ومن أين لهم المال؟ قال: المال مني.
قلت: وزودتهم أيضاً بالمال، والله لا يعصون الله في شيء إلا وهي في رقبتك يوم القيامة، انتبه! لا تعط ولدك ريالاً واحداً ليخرج خارج هذه البلاد، وولاة الأمر حريصون على ألا يعطوا أحداً جواز سفر إلا بموافقتك أنت، كيف ترسل ولدك إلى الأماكن الموبوءة القذرة المنتنة، وتزوده بالمال وتقول له: اذهب، ثم تريده أن يرجع ومعه دين، لا.
لا يمكن أبداً بأي حال من الأحوال.
أما ما يصنعه الناس اليوم في استقبال شهر رمضان على أنه موسم من مواسم الأكل، فهذا خطأ وضد شريعة الصوم، وإنما شرع الصوم من أجل أن نعرف ألم الجوع ونعاني معاناة الفقير، ونصبر عن الطعام، لكن حولنا وقلبنا المسألة! أصبح رمضان شهر طعام ومطاعم، يقضي الرجل سحابة نهاره من الصباح إلى العصر وهو متنقل بين البقالات، بل رأيت أحد أقاربي وهو يريني كشف الطلبات وفيه كرتون شربة! كرتون شعيرية! قلت: كرتون! لماذا كرتون؟! قال: رمضان كريم! قلت: رمضان كريم لتأكل فيه؟! رمضان كريم لتشتري فيه كرتوناً وتوزعه على الفقراء الذين ليس لديهم شيء، ليس لكي تملأ مخازنك، وتأكل حتى تمتلئ كل أجزاء بطنك.
تصوروا أن بعضهم لا يستطيع أن يقوم من السفرة؛ لأنه لا يفطر على تمرات، وإنما يفطر على تمرة وشربة وسنبوسة وحلوى، وشراب، وعصيرات، ولو أن جملاً أكل هذا الفطور كله لمات، ثم يذهب ليصلي فيبحث عن أقرب مسجد وأسرع إمام، ثم يرجع بعد المغرب إلى العشاء والسفرة ممدودة، ولا بد أن يعمم عليها كلها، كيف يترك هذه، بل يأكل من هذه وهذه ومن هذه، ولو أكل من كل نوع لقمة لامتلأت بطنه وانفقع، ولكن يأكل من هذه قليلاً ومن هذه قليلاً، وإذا انتهى قال: ائتوا بالماء لأغسل يدي، وبعد ذلك إذا أذَّن العِشاء لا يستطيع أن يقوم من مكانه، إذا أراد أن يقوم فاتته الفريضة.
فكثير من الناس يدركون التراويح ويضيعون الفريضة، والتراويح سنة مؤكدة والفريضة فريضة، ويأتي يصلي النافلة ويترك الفريضة، فهذا منكوس -والعياذ بالله- وبعضهم يبحث عن إمام يصلي صلاة حسنة خفيفة، يعني: يريد أن يصليها في غمضة عين، وإذا وجد شخصاً مؤمناً يرتل كلام الله، ويخشع في كلام الله، قالوا: هذا مُعقد مُشدد! والله إن أرجلي قد تكسرت! ولماذا تكسرت رجلاك هنا ولم تتكسر في السوق وأنت من الصباح إلى المغرب هناك، في البقالات والأسواق المركزية، وعند الحنيذ والحلويات والمشويات والمقليات؟ لكن عندما تكون بين يدي الله في ركعتين أو أربع أو ست ركعات تتكسر أرجلك، وإذا بك متعب هنا ونشيط هناك، فهذا قلب فاسد والعياذ بالله.
وأقول لكم يا إخواني: استقبلوا شهر رمضان بتلاوة كتاب الله، وبمدارسة العلم، ولا تشتر شيئاً جديداً، بل اترك رمضان مثل شعبان تماماً.
وأنا شخصياً قلت لأهلي: والله لا آتي بشيء زائد عن شهر شعبان، بل أُنقص، لأننا كنا نفطر ونتغدى ونتعشى في غير رمضان، وفي رمضان ماذا جرى؟ هو سحور وفطور فقط، أي: وجبتين، إذاً أُنقص الثلث؛ لأنه لا يوجد غداء.
وبعد ذلك اجعل أهلك يصنعون لك نوعاً أو نوعين من الطعام فقط، ثم أفطر على تمرات أو ماء، ثم قم إلى المسجد وارجع على نوعين من الطعام، وبعد ذلك صل، وبعد الصلاة ارجع إلى أهلك فإن كان هناك شيء خفيف تأكله وإلا فاصبر حتى تتسحر (تسحروا فإن السحور بركة).
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.