هذه المساءلة تأتي لبيان وتقرير، ثم لمفاصلة، ومن ثَمَّ يبدأ التوجيه للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه المواجهة، مواجهة المشركين الذين يعرفون أن الله هو الخالق، وما كان مشركو العرب ينكرون هذه الحقيقة:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[لقمان:٢٥] فما كانوا يشركون في الربوبية، فقد كانوا يعرفون أن الخالق هو الله؛ لكنهم لا يتبعون هذه الحقيقة -حقيقة الربوبية- بالحقيقة الملازمة لها، وهي حقيقة الألوهية، فما دام أنه الرب فإنه المعبود لوحده، لكنهم كانوا يفصلون بينهما، ويعبدون آلهة مع الله.
وبدأت المواجهة بتقرير الربوبية من أجل جعلها لازماً للألوهية، فيقول عزَّ وجلَّ:{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الأنعام:١٢] التي لا يجادلون فيها، فيقول الله تعالى:{قُلْ لِلَّهِ}[الأنعام:١٢] ولقد كان العرب -كما قلت لكم- في جاهليتهم أخف ضلالاً من جاهلية الناس في هذا الزمان، لماذا؟ تلك الجاهلية فيها ضلال وزيغ؛ ولكن الجاهلية الحديثة؛ جاهلية البعد عن الله في أبشع الصور، وهي درجة الإلحاد، هذه لا تؤمن بالحقائق، ولا تعرف حقيقة أن الله هو خالق الكون والحياة، والتي هي متعلقة بفطرة الإنسان وبتكوينه، وأن الله هو الذي خلق الإنسان وفطره على الإيمان به، يقول الله عزَّ وجلَّ:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الروم:٣٠].
حتى الفطرة المركبة في الإنسان والتي هي أرضية لاستنبات هذا الدين، مُسخت هذه الفطرة وغُيِّرت، وجُعلت مضادة لما يمكن أن يكون صالحاً لإسعاد هذا الإنسان، إنهم كانوا يعرفون ويقرون أن لله ما في السماوات والأرض؛ ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه القضية نتائجها المنطقية من إفراد الله عزَّ وجلَّ بالعبودية والحاكمية في الأرض، وبهذا اعتُبروا من المشركين، وسُميت حياتهم بالحياة الجاهلية، فكيف -أيها الإخوة- بمن يخرجون على أمر الله كله، وعلى اختصاص الله كله، ويزاولون هذا بأنفسهم؟! بماذا يوصفون؟! وبماذا يمكن أن توصف به حياتهم؟! لا بد من إعطائهم صفة أخرى غير الشرك؛ إنها الكفر، والظلم، والفسق، كما قررها الله عزَّ وجلَّ في سورة المائدة:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:٤٤]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المائدة:٤٥]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المائدة:٤٧].