للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من مظاهر رحمة الله: إنزاله لرحمة يتراحم بها الخلق في الدنيا]

أيها الإخوة: هذه الرحمة ضرب لها النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة وقربها إلى القلوب حتى تُفهم، وهذا شأنه صلى الله عليه وسلم في حياته الدعوية أنه كان يقرب المفاهيم والمعاني إلى قلوب الناس بالأمثلة، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:٢١].

أخرج البخاري ومسلم حديثاً عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جعل الله الرحمة مائة رحمة، أمسك عنده تسعاً وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً من المائة، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) بسبب هذه الرحمة! وتصور جزءاً واحداً العالم كله يتراحم به الآن، فتجد الناس في قلوبهم رحمة؛ إذا مَرَّوا على طفل صغير يبكي يأخذونه، ولو لم يكن ولدهم، وإذا رأوه مريضاً واقعاً في الأرض يسعفونه، ولو أنهم لا يعرفونه، إذا رأوه جائعاً يرحمونه، كم؟ كل الناس يرحمون.

حتى الكفار في قلوبهم رحمة؛ توجد عندهم جمعيات: الرفق بالحيوان، وجمعيات الإغاثة، وجمعيات المنكوبين، وجمعيات اللاجئين هذه الجمعيات سببها ماذا؟ وجود رحمة.

والبهائم فيها رحمة؛ فالدجاجة وهي دجاجة صغيرة، ترحم فرخها وتحن عليه، وتمتنع من الطعام والشراب، وإذا قط يريد أن يأكله، ماذا تفعل الدجاجة؟ تستسلم وتهرب من القط، والقط عدوها يأكلها؟ لا، تتحول الدجاجة إلى مصارع وعدو، تأخذ جناحيها وتفعل بطرفيها هكذا، وتقفز إلى ظهره، وتنقره في عينه -لماذا تأتي على فراخي- ما الذي أعطاها هذا؟ الرحمة، رحمة الله تبارك وتعالى.

والتبيع الصغير يخرج من بطن أمه ويقع في الأرض لا يوجد مستشفى يؤخذ إليه، ولا ولادة، ولا حفائظ ولا أي شيء، تقوم الأم البقرة بالمهمة فتخرج لسانها وتمسحه، إلى أن تنظفه وتجعله مثل الوَدَعَة، من علَّم البقرة أن تعمل هذا العمل؟ والحديث يقول: (وبها ترفع الدابة حافرها) ما أدرَى الدابة أن هذا يستحق الرحمة الآن، إذ لو رَصَعَتْه مات.

القطة تضع أولادها الصغار ثم تأخذهم من مكان إلى مكان، تراها آخذة ابنها، تمسكه من رقبته من هنا، وتأتي به، وتضعه هناك، وترضعه، وتصيح إذا لم يتركها أحدٌ ترضعه من؟ إنه الرحيم الرحمن تبارك وتعالى.

وهذا التمثيل يقرب للإدراك البشري تصور سعة هذه الرحمة.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ذلك، يقول عمر رضي الله عنه: قُدِمَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فكانت فيه امرأة من السبي، تسعى وقد تحلَّب ثدياها، مرضع ضاع منها ولدها، ولمَّا سُبيت وجدت ثدييها تدرَّان باللبن، وإذا بعينيها تزوغ، تبحث عن ولدها في أي مكان، يقول: ثم نظرت، فإذا صبيها موجود، فأسرعت إليه، واحتملته، وألصقته بصدرها، ثم حنت عليه، وأرضعته، فقال صلى الله عليه وسلم للصحابة: (أترون هذه مُلْقِيَةً بولدها في النار وهي تقدر؟ قالوا: لا، قال: والله إن الله أرحم بعباده من رحمة هذه بولدها) اللهم أدخلنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

يا إخواني: والله كل هذه الأحاديث وكل هذا الكلام يجعل الواحد منا يخجل أن يعمل معصية مع الرحيم المتعالي؛ لكن ما ظنكم بواحد يسمع بالرحمة ويقول: سأظل عاصياً لكي يرحمني.

كذَّاب.

لا يرحمك وأنت عاص: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [الأعراف:٥٦] مِن مَن؟ {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:٥٦] يرحمك إذا تعرَّضتَ له، أما إذا عاندته وعصيته وشاققته وتوليت عنه وهربت وحاربته، كيف يرحمك؟! {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:٤٩ - ٥٠]، {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:١٦٧].

فلا بد -أيها الإخوة- أن نفهم هذه المفاهيم حتى لا يغلظ علينا جانب ونقول: أن الله غفور رحيم؛ ما دام الله يرحمنا إذاًَ نجلس كلنا في المعاصي، ويرحمنا الله.

لا، بل نتعرض لهذه الرحمة حتى يرحمنا الله تبارك وتعالى.