[هجر القرآن والإعراض عنه]
إن هجر القرآن والإعراض عنه، وعدم تعلمه وتعليمه، وعدم العمل به، كل هذا من أسباب الدمار، ومن أسباب عذاب القبر؛ لأن المعاصي الكبيرة يرتب الله عليها عذاباً في الدنيا والآخرة، ومن ضمن المهالك الكبيرة التي توعد الله عَزَّ وَجَلّ أصحابها بالعذاب: هجر القرآن والإعراض عنه.
وفي هذه الليلة نذكر لكم حديثاً في صحيح البخاري وهذا الحديث الذي معنا في موضوع أسباب عذاب القبر هو حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، والذي فيه: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انطلق مع اثنين من الملائكة، ثم سار معهم ورأى مناظر ومشاهد مما يحصل للمعذبين في دار البرزخ في القبور، ومن ضمن ما رأى (رأى رجلين: رجلٌ مستلقٍ على قفاه -أي: على ظهره- وآخر واقفٌ على رأسه ومعه حجرٌ كبير يحمل الحجر فيرضخ به رأسه، ثم يتدهده هذا الحجر، فيذهب هذا الرجل ويأتي به فلا يعود إلى صاحبه إلا وقد أعاد الله رأسه كما كان فيضربه الضربة الثانية ويتدهده الحجر -وهكذا-).
أي: أنه يرضخ رأسه والله يعيده، فتعجب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا المنظر وقال: (ما هذا؟ -ما هو سبب هذه المصيبة العظيمة؟ فقالا له: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا -وفي نهاية الرحلة أخبراه- فقالا له: أما الرجلان المستلقي على قفاه والآخر يضرب رأسه ويرضخ رأسه في الحجر: هو الرجل يعلمه الله القرآن ثم ينام عنه في الليل ولا يعمل به في النهار).
إذاً: ينام عن القرآن في الليل، ولا يتشرف بأن يقوم لله عَزَّ وَجَلّ ولو بركعتين في جوف الليل، وتعرفون منزلة القيام، فالقيام: هو المطية التي يمتطيها أهل الآخرة إلى الله عَزَّ وَجَلّ إذا نام الغافلون: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:٧٩].
وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:١٧] * {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:١٨].
وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:١٦] وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ركعتان في جوف الليل خير من الدنيا وما عليها).
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل نزولاً يليق بجلاله فيقول: هل من سائلٍ فأعطيه سؤله، هل من تائبٍ فأتوب عليه، هل من مستغفرٍ فأغفر له) فمن صادفها ولقيها فهنيئاً له؛ لأن قيام الليل مركب الصالحين، وهو ضمان لأداء صلاة الفجر، إذ أن الذي يقوم الليل لا يمكن أن يضيع صلاة الفجر إلا إذا كان مخذولاً لعب عليه الشيطان وأقامه في الليل، ثم نام بعد قيام الليل وأضاع صلاة الفجر، فهذا من لعب الشيطان على الإنسان أن يقيمك للقيام ويضيعك عن الفريضة؛ لأن الفريضة أهم عند الله في الميزان من النافلة: (فهو الرجل ينام عن القرآن في الليل، ولا يعمل به في النهار) أي: لا يتخلق بأخلاق القرآن ويسير في الطرق التي حرمها القرآن، ولا يسير في الأوامر التي أمر بها القرآن، فالقرآن مهجورٌ في قلبه، مهجورٌ بالتلاوة، ومهجورٌ بالتدبر، ومهجورٌ بالعمل، ومهجورٌ بالانصياع والانقياد، ومهجور بالحكم والتحاكم، فقد هجر القرآن من كل جانب، ويوم القيامة يكون خصمه القرآن، ومن كان خصمه القرآن قهره، كما جاء في الحديث: (واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك).
إن القرآن يأتي يحاج صاحبه يوم القيامة أو يحاج له، فإن كان من أهله يحاج عنه حتى يدخله الجنة، وإن كان ليس من أهل القرآن، فإنه يحاجه عن كل معصية عملها ويقول له: لماذا عملتها وأنا في جوفك وقد قلت لك، ثم يحاجه حتى يدخله النار والعياذ بالله، وإن شاء الله سوف نذكر شيئاً من التفصيل في بعض الأشياء المتعلقة بكتاب الله عَزَّ وَجَلّ.
قال الله عَزَّ وَجَلّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:٢٩ - ٣٠] وهذه الآية يسميها المفسرون: آية القراء وهي آية في سورة فاطر.
يتلون كتاب الله أي: يملئون حياتهم به؛ لأن ما يعانيه الناس اليوم من جفافٍ في القلوب وقسوة؛ سببه هجر القرآن، وعدم تلاوة القرآن، وأنتم تعرفون إذا دخل رمضان وأقبل الناس على القرآن، وبدأ كل واحد يقرأ، تدخل المسجد وتجد الناس لهم دوي في التلاوة، وتجد الشخص في المكتبة يقرأ، وقبل الصلاة يقرأ، وبعد الصلاة يقرأ، وفي الليل يقرأ، كيف تتحول أخلاق الناس؟ أما ترون أثراً في سلوك الناس، وليناً في قلوبهم، واستقامة في حياتهم، وصفاءً في أرواحهم بسبب القرآن؟ فإذا انتهى رمضان ودعوا المصاحف وعادوا إلى حياتهم، فيأتي بعدها قسوة القلوب والهجر للقرآن وهجر المساجد ونسيان الآخرة، وعدم ذكر الله عَزَّ وَجَلّ.
فما من مشكلة يعاني منها الناس اليوم إلا وسببها هجر القرآن، هل يمكن للإنسان التالي لكتاب الله أن يزني؟! أن يغني؟! أن ينظر إلى الحرام؟! فالقرآن حاجز بينك وبين المعاصي، فإذا هجرت القرآن استغل الشيطان الفراغ، وملأه بالمعاصي والعصيان، ولذلك يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف:٢٧] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة).
فهذه آية القراء فيها وعدٌ عظيم، وبشرى عظيمة: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:٢٩] يرجون، أي: يأملون ويرغبون بالتجارة مع الله، الذي من تاجر معه ربح.
(لن تبور) لن.
يسميها علماء اللغة: لن الأبدية الزمخشرية، فتجارتك لا تبور مع الله أبداً، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والحرف من القرآن بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أقول: (ألم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) هذه تجارة رابحة مع الله، لا تبور ولا تخرب ولا تتعرض أبداً لأي خسارة؛ لأنك تتاجر مع غني، والذي يتاجر مع الغني لا يخسر، كل التجارات معرضة للربح والخسارة إلا التجارة مع الله، فإنها تجارة رابحة، قال الله عَزَّ وَجَلّ وهو يبين تفاصيل التجارة: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} [فاطر:٣٠] أي: يعطيهم ثواب أعمالهم، وهذا كافٍ، إن التجارة الرابحة هي أن تجعل ثمناً لعملك.
وقال عز وجل: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:٣٠] يزيدك من فضله وفضل الله واسع، ففضل الله عظيم إذا ما تعرضت لفضله.