وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمانة سوف ترفع في آخر الزمان، وهذا الرفع سيكون بطريقة تدريجية لا مرة واحدة؛ لكن ترفع تدريجياً، وفي زمن حذيفة رضي الله عنه وهو الصحابي الجليل صاحب الوضوح، صحابي كان متخصصاً في معرفة الشرور، وكان أمين سر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:(كان الناس يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه) وتبين الشرور أمر مهم يا إخواني، ومن ضروريات المسلم أن يعرف الشر ليتقيه لا ليقع فيه، وهذا الصحابي يقول:(كان الناس يسألونه عن الخير -عن الصلاة عن الصوم- وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه) في زمن حذيفة لاحظ شيئاً من ترك الأمانة، ولكن في زمننا هذا كثير من ترك الأمانة.
روى الإمام مسلم في صحيحه حديثاً صحيحاً عن حذيفة رضي الله عنه قال:(حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال) الأمانة إذا استقرت لا تكون في السطح بل في جذر وفي عمق قلب الرجل، ولذا ترى الرجل غير الأمين في جوف الليل يسمع أغنية، من الذي يراقبك في تلك اللحظة؟ لا أحد يراقبك إلا الله، أمانتك فرضت عليك ألا تخون الله في أذنك، الرجل الأمين وهو في الشارع يمشي يرى أمامه امرأة متكشفة ليس معها زوج ولا أب ولا أخ، ولا أحد يراه فلا ينظر إليها، من الذي جعله يغض بصره؟ خوفه من الله وأمانته على استعمال هذه العين، يستلم الراتب ويعده مرة ومرتين وثلاثاً فيرى فيه خمسمائة ريال وبإمكانه أن يخفيها؛ لكن أمانته تفرض عليه أنه يرجع الخمسمائة ريال؛ هذه الأمانة إذا نزلت استقرت في جذر قلوب الرجال، والذي ما عنده هذه الأمور ما عنده أمانة، ولا في جذر قلبه شيء.
قال:(إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة) يعني: جاءت الأوامر بعد الأمانة والإيمان، والآن تأتي الأوامر قبل الأمانة والإيمان فلا يعمل الناس بالقرآن، يقرأ القرآن وهو ليس بمؤمن ويقرأ القرآن أو يسمعه ثم يغني، ويقرأه ويقوم ليزني، ويقرأه ويكذب يقرأه وينهب، يقرأ ويشهد زوراً، ويقرأ ويعق والديه، يقرأ ويقطع الصلاة، لماذا؟ لأنه علم القرآن قبل أن تستقر الأمانة في قلبه أي الإيمان.
قال:(فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه ويظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء) الجمر إذا دحرجته على رجلك أو يدك أو جلدك، ماذا يحدث؟ ينتفخ وينتبر وتراه كأنه شيء، لكنك لو فتحته ظهر الماء وهذا أثر الجرح، وإنما الأمانة يبقى لها شيء ظاهر لكن لو تختبرها فإنها لا شيء، اختبرها عند المرأة مباشرة تسقط، اختبرها عند الرجال مباشرة تسقط، اختبرها في صلاة الفجر فإنه ينام وليس هناك إلا أثر.
(فتراه منتبراً -يعني ظاهراً كأنه أمين- وليس بشيء، ثم أخذ حصىً فدحرجها على رجله ثم قال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً) تصبح الأمانة شيئاً عزيزاً، وتصبح نادرة حتى يقال في القبائل: إن في آل فلان رجلاً أميناً، ولقد تحقق هذا في بعض البلدان، إن القرية من أولها إلى آخرها لصوص ليس فيهم شخص يخاف الله إلا واحداً أو اثنين، فيقولون: والله فلان أمين يخاف الله، بينما الأمانة كانت موجودة في صدور الرجال كلهم ليس فيهم إلا واحد أو اثنان ليسو أمناء، وهذا من إدبار الدين وإقبال الدنيا.
قال:(حتى يقال للرجل: ما أجلده ما أظرفه ما أعقله، وما في قلبه من الإيمان حبة خردل -ذوق، أخلاق، والله يعلم أنه ليس في قلبه شيء من الإيمان- قال حذيفة: ولقد جاء عليَّ زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلماً ليردنه عليَّ دينه، ولئن كان غير ذلك ليردنه على مواليه، وأما اليوم فما كنت لأبايع أحداً إلا فلاناً وفلاناً) وهذا كان في عهد القرون المفضلة يقول: لا يوجد من أبايع إلا فلاناً وفلاناً؛ لأني أعرفهم أمناء لا يغشون العسل، ولا يجعلون البضاعة الجيدة في الأعلى والرديئة في الأسفل، ولا يضغطون (التنك) من اليمين والشمال والرمان الكبار في الأعلى والصغار في الأسفل، أين الأمانة؟ ويريد أن ينزل مطر من السماء، بهذا ينزل عليه حجارة ولعنة من السماء، لماذا لا تضع الرديء على جنب والجيد على جنب، وتقول: هذه بخمسين وهذه بعشرة، من أجل الذي معه مبلغ كبير يشتري كثيراً، والذي لديه قليل من المال يشتري لأولاده على قدر ما لديه من المال ويأخذ له بعشرة، لكن أن تضع الجيد مع الرديء وتغش المسلمين وتريد من الله أن يرحمك؟! لا إله إلا الله! يقول حذيفة:(لقد كنت ما أبالي أيكم بايعت) يقول: كنت أبيع وأشتري وأنا مغمض؛ لأني أعرف أني أبيع وأشتري من أمين لا يغشني (واليوم ما كنت لأبايع أحداً إلا فلاناً وفلانا) معدودون على الأصابع في عهده رضي الله عنه فكيف بعهدنا؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! من علامات الساعة، وهذه العلامات اسمها علامات فساد الضمير وفساد الذمم، ولكن ليس على العموم، بل يبقى في الأمة أفراد وتبقى في الأمة الفرقة الناجية، وبقدر وجود العلم وانتفاء الجهل وبقدر تدعيم قضايا الإيمان في قلوب الناس يوجد الإيمان، وأنا أعرف كثيراً من الناس -بفضل الله- أصحاب مزارع عندهم إيمان، وأذكر مرة أني صليت الفجر في المسجد وذهبت إلى السوق بعد صلاة الفجر لأجل أن أشتري حوائجي من بداية النهار؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم:(بارك الله لأمتي في بكورها) فجئت ووجدت أحد المزارعين جزاه الله خيراً أتى (بفرسك) في (زنابيل) فقلت: بكم؟ قال: هذا بخمسين ريالاً، قلت: وهذا بكم؟ قال: هذا بعشرين، قلت: ماذا في هذا؟ قال: انظر هذا أمام عينك، كله هكذا، يعني: رديء، وذاك جيد، قلت: اسكبه لي، فسكبه لي وإذا به فعلاً والله ما فيه حبة ترميها، قلت: بارك الله لك، قال: ماذا تريد! أغش ذمتي، وقد كنت أغشها وربي يضربها بالبرد، ويضربها بالبلاء ويأتيه آفة، ويأتيه جذم وذهب (الفرسك) يقول: ويوم سرت أنا بالطريق الصحيح ربي أعطاني، وإذا خرب شيء بسيط فإنما هو بسبب ذنوبنا، وعنده عشرون زنبيلاً الحبة -ما شاء الله- تشتريها وأنت مغمض عينيك، فالأمة فيها خير والحمد لله، ولكن تحتاج إلى توعية وإلى دعم وإلى علم حتى تستقيم على منهج الله سبحانه وتعالى.