للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذهاب القلق والاضطراب والحيرة]

الثمرة الأولى التي يجنيها المهتدي والملتزم والمستجيب لأمر الله هي: أن الله عز وجل ينزع من قلبه القلق والاضطراب والحيرة، ويزرع في قلبه الطمأنينة والهدوء والسكون والارتياح.

وهذه لوحدها كافية لأن تعدل كل لذة في الدنيا، فإن القلق داء العصر، وإن الاضطراب والحيرة مرض هذا الزمان، وسببه البعد عن الله، وأضرب لكم على هذا مثالاً: لو أراد رجلٌ أن يسافر إلى الرياض -تعرفون طريق الرياض عبر وادي الدواسر - ثم ضل في الطريق؛ خرج عن طريق (الإسفلت) لقضاء لازمٍ له، فلم يجد فرصة ولا دلالة للرجوع إلى طريق (الإسفلت) فجلس يبحث عن الطريق، والوقود عنده على وشك النفاد، والزاد الذي معه من طعامٍ وشراب أيضاً على وشك النفاد، ولا يدري أين الطريق، وظل يمشي مرة إلى الشمال ومرة إلى الجنوب ومرة يتجه إلى الشرق ومرة إلى الغرب، ما ظنكم بحالته النفسية؟ هل هو في قلق أو في راحة في تلك اللحظات؟ والطريق ملتبسة عليه، وزاده يكاد ينتهي، ووقوده كلما سار يتناقص، كيف ظنكم بنفسه في تلك اللحظات؟ أليس في حيرة؟ أليس في قلق وهلع وخوف؟ أليس إذا رأى أي بارقة لأمل يفزع إليها ولو جاءه شخص وقال: الطريق من هنا اتجه مباشرة إليها، ولقيه شخص هناك، قال: لا.

لا تمش من هنا، فهذا الطريق يذهب بك في متاهات فارجع من هنا، فيرجع ويضل في حيرة ولا يدري أين يتجه؛ لأنه يحسب أن كل دقيقة تمر عليه تقربه إلى الهلاك، وكل كيلو يقطعه يقربه إلى نفاد الوقود والزاد، ولذا يفكر ثم يفكر، ويخرج من تفكيره هذا إلى أن الهلاك محقق وأنه على يقينٍ من الموت، فهو في قلق! حسناً إذا سار في الطريق ولقيه شخص، وقال: لماذا أنت تتخبط في الطريق؟ قال: يا أخي! أريد الرياض وأنا لا أعرف الطريق، قال: امش ورائي فأنا خبير بالطريق، ثم أخذه حتى أوصله إلى طريق (الإسفلت) فحين يرى (الإسفلت) يحصل في نفسه الفرح والهدوء والطمأنينة، وأول شيء يعمله أن يقف على جانب الطريق ويحمد الله على أن نجاه من المتاهات، وأيضاً يطلب طعاماً، ويطلب وقوداً، ويرتاح أحياناً نصف يوم أو يوم؛ لأنه كان في قلق وحيرة ثم بعد ذلك يواصل الطريق حتى يصل إلى الرياض.

هذا مثل مضروب في حياتنا ولا نستطيع أن ننكره.

فهذه الدنيا، وهذه الحياة صحراء ومتاهة كبيرة يعيشها الإنسان ويعاني منها، وترون العاصي والضال والمنحرف وهو يعيش في متاهات هذه الحياة؛ يعيش وهو لا يدري أين يتجه، ولذا فهو في غاية القلق، خاصة إذا تذكر الآخرة، وما تذكر أن الزاد سينفد والوقود سينتهي؛ لأن كل من على وجه الأرض يؤمنون بأنهم سيموتون، ولذا إذا ذكر لهم الموت وأن الوقود سينتهي فإنهم تقشعر أبدانهم وتضيق أخلاقهم، ويقولون بلسان حالهم ومقالهم: يا شيخ! اتركنا من الموت، يقولون: لا تذكرنا بالموت! أنت الآن تريدنا أن نموت قبل أوان الموت، فاترك ذكر الموت، وبعد ذلك! الآن نلعب ونسمر ونمرح ويغالطون أنفسهم باستمرار لينقلوا أنفسهم من الواقع المرير الذي يعيشون فيه بالمغالطة، فإذا اشترى أحدهم مجلة فإنه أول ما يقرأ: الصفحة الضاحكة! يريد أن يضحك، وإذا اشترى جريدة فإنه أول ما يقرأ: نكتة اليوم، وإذا سمع أن حفلة ستقام وفيها مسرحية وضحك ونكت فإنه يذهب لها، وبعضهم يشتري كتباً معينة.

أنا أذكر شخصاً من الأشخاص يبحث عن كتب ويقول للبائع: أعندك كتب النوادر والضحك؟ لماذا يضحك؟ هل الضحك هوايته؟ لا.

ولكن الضحك والبحث عن وسائله دليل على وجود ضيق في الداخل، وعذاب في الباطن يريد الإنسان أن ينتزعه وأن يخفف من هذا الواقع بهذه النكت وبهذه المغالطات، ولكن متى يسكن الإنسان ومتى ترتاح نفسه؟ إذا وجد من يدله على الطريق ويوصله إلى خط (الإسفلت) الإسلامي، والهداية الإيمانية وهناك يسكن ويرتاح ويطمئن ويقول: الحمد لله الذي نجاني بعد أن كنت من القوم الضالين! ولا يعرف نعمة الإيمان إلا من ذاقها وسار على طريقها.

وطريق الإيمان طريقٌ واضح، قال الله تعالى فيه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:١٥٣] هذه النعمة نعمة الأمن والطمأنينة والهدوء والراحة التي يشعر بها المؤمن لا توجد إلا عند أهل الإيمان، ولا توفرها الإمكانات المادية.

فبالرغم من أن البشرية في الغرب والشرق استطاعت أن تحقق لنفسها الكثير والكثير من الإنجازات والإمكانات المادية، إلا أن ذلك على حساب الروح التي تعيش الآن في شقاء، والإحصائيات الدقيقة تبين أن أكثر الدول تقدماً أكثرها نسبة في الانتحار، وكلما كانت الدولة راقية ومتطورة ومتقدمة تكون نسبة الانتحار فيها أكثر! فما هو الانتحار؟ الانتحار هو التخلص من هذه الحياة عن طريق التردي من جبل، أو الضرب بالمسدس، أو ابتلاع كمية من الحبوب، أو الدخول في البحر والغرق وما تشاهدون في التلفزيون أو في الجرائد أو ما تسمعون من أخبار سباق السيارات الذي يسمونه سباق الرالي، أو سباق أي شيء من السباقات التي فيها موت، أو سباق الدراجات النارية فالذي يراها يعرف أنها عملية انتحار، وأن هذا السائق الذي يسابق متيقن (٩٠%) من بداية السباق أنه ميت! وقد سمعت أن سباقاً أقيم في بلد من بلدان إفريقيا مات فيه خلال يومين أحد عشر متسابقاً؛ لأنه يسرع ويموت، وهذه قضية خطيرة فليس هناك إنسان في الدنيا يتصور أنه يسابق ويموت من أجل الجائزة، وإنما هو إنسان في الأصل يريد أن يتخلص من الحياة، فهو يعرف أنه لا يتخلص منها إلا بموت، أو بمسدس، أو بحبوب، أو بتردي من جبل، ولكن يقول: لا.

أنا أتخلص من الحياة بهذه الوسيلة، وإذا لم أمت فسأربح جائزة أو كأساً، أو أحقق رقماً قياسياً عالمياً بهذا السباق، وإن مت فلن أخسر شيئاً.

فالموت أصلاً هدف من أهدافهم التخلص من الحياة هدف من أهدافهم، ولذا فإنك تنظر إليه وهو يسرع ويجري وينعطف في المنعطفات بطريقة لا تتصور أنت أن هذا عنده مثقال ذرة من رغبة في الحياة وإنما يرغب أن يموت، يريد أن يتخلص من هذه الحياة! هذا كله بسبب البعد عن الله تبارك وتعالى، والعناء والعذاب الذي يعاني منه الكفار في ضل كفرهم وبعدهم عن الإيمان، وعقيدة الإسلام السمحة التي تزرع في القلوب الأمن والطمأنينة، وتنزع منها القلق والاضطراب، وهذه والله -أيها الإخوة- نعمة لا تعدلها نعمة، يقول فيها أحد السلف: مساكين أهل هذه الدنيا، جاءوا إليها وخرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: التلذذ بعبادة الله عز وجل.

ويقول الآخر: والله لو يعلم أهل الجاه والسلطة ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف.

ويقول ابن تيمية: ما يصنع بي أعدائي؟ إن جنتي وبستاني في صدري، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وطردي سياحة.

ويقول ابن القيم رحمه الله: كنا إذا ضاقت بنا المذاهب، يقول هذا وهو مطلق وليس بمسجون؛ لأنه كان يسجن عدة مرات مع شيخه ابن تيمية ثم يطلق، لكن ابن تيمية ظل مسجوناً طوال حياته، حتى مات في سجن القلعة في دمشق.

يقول: كنا إذا ضاقت بنا المذاهب، وأظلمت علينا الدنيا؛ ذهبنا لزيارته في سجنه، فوالله ما إن نراه حتى يذهب الله ما في قلوبنا من الضيق والقلق، ونعيش معه في سعادة لا نجدها في الدنيا كلها.

وهو مسجون! من أوجد له هذه السعادة؟ إنه الإيمان بالله، رغم أن الإنسان الذي لم يسجن هو حقيقةً يمارس جزءاً من السعادة والحرية لكن بجسده.

وكان يقول: المسجون من سجن عن ربه، والمأسور من أسره هواه وشيطانه، فهذا هو المسجون الحقيقي! المسجون الحقيقي من حبس وسجن عن الله فلم يتصل بربه، ولم يتعرف على خالقه، فهو بعيد عن طريق المناجاة والعبادة والتقرب إليه، والمأسور من وقع في أسر نفسه وهواه وشيطانه هذا هو المأسور حقيقة، أما الذي يعيش مع الله فليس بمسجونٍ وإن كان مسجوناً في الظاهر، ولكن روحه طليقةٌ تعيش في ملكوت السماء -الملأ الأعلى- وتعيش في هذه الحياة مع الله في السر والعلن، والليل والنهار، والمحن والمنح وفي كل حالة، ومن كان مع الله فلا يخاف ظلماً ولا هضماً.

هذه هي نعمة الإيمان التي تحقق في الإنسان هذه الكرامة العظيمة التي لا يمكن أن تباع في الصيدليات، أو تشترى من الأسواق المركزية، أو يحصل عليها بقوة العضلات، وبكثرة الريالات، وبعلو المناصب والرتب، وإنما يستطيع أن يحصل عليها كل إنسان؛ لأن مجال إدراكها عن طريق الاكتساب.