[أهل الإيمان هم أهل النعمة]
أيها الإخوة: الذين أنعم الله عليهم هم أهل الإيمان والدين، وقد أنعم الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأعظم نعمة وقال له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح:١ - ٢]، ما هي النعمة التي أتمها على نبيه؟ أهي نعمة الأكل؟ لا، فقد مات ولم يشبع من طعام البر، اللهم صلِّ وسلم عليه، بل مات ودرعه مرهون في ثلاثين صاعاً من شعير عند يهودي، الشعير الذي نجعله الآن علفاً للبهائم، هذا الذي كان يأكله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن موجوداً بكثرة إنما بالدين، وكان يدخل الهلال والهلال والهلال شهران وثلاثة أشهر، ستون يوماً، ولا يوقد في بيوت آل محمد نار، نحن الآن بيوتنا تشتعل ناراً، كل بيت فيه موقد وفيه ست عيون، وكل عين تلتهب بالقدور، لكن هل هذه نعمة؟ لا! بيت محمد لا يوجد فيه نار لكن فيه نور وهدى، من بيت محمد صلى الله عليه وسلم انطلقت معالم الإنسانية والهدى والنور على العالم كله.
((وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) [الفتح:٢].
بماذا؟ بالملابس؟ بالفرش والكنبات؟ لا.
إنه صلى الله عليه وسلم كان ينام على الحصير، حتى قام يوماً وقد أثر الحصير -هذا الحصير الذي من سعف النخل- أثر في جنبه، فرآه عمر فبكى، وقال: (يا رسول الله! ذكرت ملوك العرب والعجم وما هم فيه من النعم، وأنت أعظم خلق الله وأفضل خلق الله، ليس عندك فراش يا رسول الله! قال: يا عمر! ما لي وللدنيا، ما أنا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها، ألا يرضيك يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟) {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:٨٣].
أما قصوره صلى الله عليه وسلم (وفلله)، وغرف نومه، ومساكنه ومجالسه، فكانت حجرات ضيقة تحددها الأحاديث في صحيح البخاري، تقول عائشة: (كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، فإذا سجد كففت قدمي وإذا وقف مددتهما)، لا تكفي الغرفة لشخص واحد يصلي وآخر راقد، أما غرفنا نحن اليوم فإنها غرف طويلة عريضة، شخص من أقاربي أدخلني في (فيلة) بناها، وذهب يريني غرفة النوم فإذا بها عشرة في عشرة، قلت: ما هذه؟ قال: هذه غرفة نوم، قلت: لماذا هل عندك سباق؟ أنت لست بحاجة إلى غرفة بهذا الحجم، أنت تريد أن ترقد أو تطارد؟ قال: أنا أريد أن أتوسع، قلت: والقبر ماذا عملت له؟ هل وسعته؟ قال: يا شيخ! تلك لم يأت وقتها بعد.
والله إنها مصيبة في ذلك اليوم، إذا أخرجوك من بيتك وأنت منكوس رأسك إلى تحت، ووضعوك في الحفرة عندها ماذا ستقول؟ هل ستقول: لم يأت وقتها بعد؟! النبي صلى الله عليه وسلم كانت نظرته أبعد من هذه الحياة، ولذا أنعم عليه، يقول الله عز وجل: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:٦ - ١١] أي: بدين الله وهداه.
وأنعم الله على الصحابة، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ عرفة في حجة الوداع فينزل عليه قوله سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:٣]، ما هي النعم التي أتمها على الصحابة؟ إنها نعمة الدين {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:٣]، ويقول للصحابة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:٧ - ٨] فضل ونعمة أن الله يجعل قلبك مشروحاً للدين، مفتوحاً للإيمان، يحب الإيمان والصلاة والصوم والذكر والعبادة؛ لأن هناك أناساً حُرِمُوا هذه النعمة، فأسوأ شيء عندهم طاعة الله، وأكره صوت عندهم الأذان، وأسوأ منظر عندهم أن يروا عالماً أو داعية أو مسجداً، وإذا دخل المسجد ضاق؛ لأنه كره إليه الإيمان، محروم من نعمة الهدى والنور.
أجل يا أخي! النعمة الحقيقية نعمة الإيمان، قد يقول قائل من الناس: لماذا؟ قال العلماء: إنما تعرف النعم بآثارها، الناس اليوم يسمون المال نعمة، قالوا: لأن الذي عنده مال يستريح، يستطيع أن يشتري سيارة، ويعمر عمارة، ويتزوج بزوجة، ويأكل من كل ما لذ وطاب، ويكتسي ويفرش، هو مستريح أربعة وعشرين ساعة، أجل أنا في نعمة بالمال والمال نعمة في الدنيا، هذا صحيح، لكن إذا مت هل ينفعك المال؟ لا.
لا ينفع الإنسان في قبره إلا التقى والعمل الصالح
يا من بدنياه اشتغل وغره طول الأمل
وقد مضى في غفلة حتى دنى منه الأجل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
ما الذي ينفع في القبر؟ الإيمان والعمل الصالح، مثل الذي بنى هذا المسجد ينفعه بعد الموت، أسأل الله أن يجعل لمن بناه بيتاً في الجنة، والله هذا هو العمل الصالح وهذه هي التجارة الرابحة مع الله، لكن القصر الذي أبنيه أو البيت لن ينفعني إلا إذا عمرته بذكر الله، ولم أدخل فيه معصية لله، وكان مملوءاً بالطاعات، وإذا عمرته بالمعاصي وأدخلت آلات المعاصي، كانت العمارة والبيت وبالاً عليَّ في الدنيا والآخرة.