[الراحمون يرحمهم الرحمن]
يقول عليه الصلاة والسلام، فيما أخرجه أبو داود: (الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وأخرج البخاري عن جرير قال: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) إذا أردت أن تكون أهلاً لرحمة الله فربِّ نفسك على رحمة الناس ارحم عاملك الذي يعمل عندك، وخادمك الذي يخدم عندك، والموظف الذي يعمل عندك في الوظيفة، ارحم جارك، وزوجتك، وولدك، وابنتك، والحيوان، والبهيمة وارحم كل شيء، واجعل الرحمة مدراراً في قلبك على الناس؛ لكن الذي لا يرحم لا يرحمه الله، فالرجلُ الفَظُّ العُتُلُّ الجعظريُّ المتحجرُ الشديد قوي على زوجته وأولاده وجيرانه وأمه وأبيه، فهذا نزع الله الرحمة من قلبه، فلا يستحق أن يكون مرحوماً من قبل الله عزَّ وجلَّ.
يروي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الحسن بن علي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، والأقرع بن حابس عنده -رجل من كبار العرب- فقام صلى الله عليه وسلم وقبَّل الحسن فقال: يا رسول الله، أتقبلون صبيانكم؟! -يقول: تقبلون الأولاد؟! - إن لي عشرة من الولد، ما قبَّلتُ منهم واحداً، فقال صلى الله عليه وسلم وقد نظر إليه: مَن لا يَرحم لا يُرحم، ما أفعل لك إن كان الله قد نزع منك الرحمة) قطع النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة لما دخل الحسن وجعل يتعثر في ثوبه فقطع الخطبة ونزل من المنبر وذهب فأخذه، ثم أكمل الخطبة وهو في يده.
بعض الناس إذا جاء ليصلي ومر ولده من أمامه صَفَعَه كفَّاً، وبهذا لن يحب الولدُ الصلاة، ولن يصلي مدى الحياة، يقول: لماذا صفعتني؟! يا أخي دع الطفل يمر؛ هذا لأنه لا يقطع صلاتك، لكن هذا الأب يحافظ على الدِّين، يقول: يا ولد! فيصفعه؛ لأنه مرَّ من بين يديه.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فركب على ظهره الحسن، فأطال السجود صلى الله عليه وسلم، والصحابة لا يسبحون له، لماذا؟ لأنهم يخافون أن يكون فعله تشريع، وأحياناً ينسى لبشريته؛ لكن لا يسبحون حتى يعرفون، فأطال فلما انتهت الصلاة، قال: (لعلكم أدركتم طول سجودي، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: إن ابني هذا ارتحلني -يقول: ركب عليَّ- فكرهتُ أن أنزله حتى نزل) هذا سيد البشر وأكرم خلق الله، راحلة للحسن، اللهم صل وسلِّم على عبدك ورسولك محمد.
ويصور النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة في مشهد عجيب جداً يخرجه البخاري ومسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (بينما رجل يمشي اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها وشرب، ثم خرج، وإذا بكلب يطوف بالبئر، يأكل الثرى من العطش -قد مدَّ لسانه على الأرض، لا يقدر أن ينزل، ولا عنده دلو يُنَزِّله، وهو فوق، والماء في البئر- فرآه الرجل فأشفق عليه وقال: والله لقد بلغ العطش من هذا الكلب مثلما بلغ بي، ثم نزل البئر فملأ خفه -الخف: الحذاء، ليس عنده إناء ولا شيء إلا خفه- ثم أمسكه بفمه -وضع حذاءه بفمه، وهو مليء بالماء- ورقى حتى صعد البئر، وسقى الكلب، قال: فشكر الله له، وغفر له، وأدخله الجنة) رواه البخاري ومسلم.
هذا كلب رحمه فأدخله الله الجنة، كيف إذا رحمتَ غيرَك؟! إذا رحمتَ مسلماً؟! إذا رحمتَ زوجتَك؟! ولا نتصور أن الرحمة أننا نسقي ونغذِّي، إذا رحمتَ زوجتك بأن حُلتَ بينها وبين العذاب؛ دعوتها إلى الله، أبعدتَ من بين يديها وسائل الفساد، ليس راحماً من يجلب لزوجته وسائل الفساد ويركِّب فوق بيته دُشَّاً، هذا رَحِم زوجتَه أم عذَّب زوجتَه؟! والله عذَّبها وعذَّب أولادَه، إن من يدخل في بيته هذا الداء يسبب كارثة لا يعلمها إلا الله؛ كأنه يعطي تأشيرة خروج للدين من بيته، وللفضيلة، وللرحمة، وللخير، فلا يبقى خيراً، كيف يأتي الخير -يا إخواني- وفوق رأسه أربعون قناة تصب بشرورها على رأسه؟! من أين يأتيه الخير؟! وبعضهم يبست عيونهم في الليل؛ إذا جاء ليرقد لن تُغْمِض عيناه، إذا انتهت قناة، انتقل إلى الثانية، فإذا انتهت انتقل إلى الثالثة، وإذا جاء ليرقد أبت عيناه أن تنطبقا، قد نشفت عيناه مما نظر في هذا الشر -والعياذ بالله- وصلاة الفجر هذه الله يحسن فيها الختام، وأحسن الله العزاء فيها، والله لا يصلُّونها ولا يعرفونها، ولا يقوم بعضهم إلا الساعة الثامنة أو التاسعة أو العاشرة، ويذهب إلى الدوام، حتى إنه لا يصلي، وإن صلى فصلاة المنافق: (يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً).
إذاًَ: رحمة لزوجتك: أبْعِدْ هذا الفساد، ارحمها من عذاب الله.
وبعضهم يقول: أنا رحمت المرأة ورحمت الأطفال.
ماذا هناك؟ قال: الأولاد مساكين، جالسين هكذا، فرحمتهم وأتيت لهم بجهاز فقط، لكي يشاهدوا كراتين.
يرحمهم! انظروا انقلبت الرحمة! هذا يعذِّب أولاده، والله ما رحمتَهم، بل عذَّبتهم، وأهلكتهم وأحرقتهم بالنار، هؤلاء أمانة في عنقك، الله سائلك يوم القيامة عنهم، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:٦] ارحموهم من النار، أما كونهم يصيحون يريدون شيئاً، فهل أنت مَعْبراً هنا فقط! كل ما طلبوا تأتي به، حتى لو طلبوا النار تأتي لهم بالنار؟! لا حول ولا قوة إلا بالله! لا يجوز أيها الإخوة.
وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم أيضاً: (أن امرأة بغيَّاً زانية من بني إسرائيل رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع -أي: أخرج- لسانه، فنزعت موقها -أي: خفها- وسقته، فغفر الله لها بهذا العمل).
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهم أجمعين قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث أخرجه أبو داود - قال: فرأينا قُمَّرَة -نوع من الطيور- معها فرخان، فأخذناهما -أخذوا الفروخ- والقُمَّرَة ليست موجودة، فجاءت القُمَّرَة ما وجدت الفروخ، فجاءت تعرِّش بجناحيها، وترخيها، وتُدْني، وتصعد، وتَنْزِل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآها الرسول -وهذا من إعجازه، ومن دلائل نبوته أنه عرف ماذا تريد عن طريق الوحي- قال: من فجع هذه بولَدَيْها؟! فقال الصحابة: نحن يا رسول الله! فقال: ردوهما عليها) فأخذوا الفرخان وردوهما في وكرها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال: (قَرَصَتْ نملةٌ نبياً من الأنبياء فأحرق الأمة كلها، فأوحى الله إليه: أن قَرَصَتْكَ نملةٌ، فأحرقتَ أمة، فهَلاَّ نملة؟) يعني: إذا كان لا بد من القصاص، وقرصتك نملة فابحث عن النملة هذه واحرقها؛ لكن تحرق الأمة كلها من أجل نملة؟! لكن العلماء يقولون: إذا كان النمل في مكان خاص في الصحراء، وأنت جئت إليها، وأخذت تتمشى، وقَرَصَتْك، فقمتَ لتحرقها؛ لأنك ذهبت لتتمشى وقَرَصَتْك هذا حرام، من الذي قال لك أن تأتي النمل؟! فأنت تستحق القرص؛ لكن لو جاء النمل إلى بيتك، ودخل في مطبخك، وأفسد عليك طعامك وآذاك، يجوز لك أن تقضي عليه؛ لكن بغير الإحراق؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا الله، يجوز لك أن تهلك وأن تقضي على هذه الحشرات والزواحف بالوسائل الحشرية المبيدة، كأن تضع مسحوقاً أو فليتاً أو أي شيء، بشرط أن يكون عليك منها ضرر؛ لأن الضرر والصائل مأمور بدفع صولته، وإبعاد ضرره، أما من غير سبب، تذهب وتضع السم وتطارد، مثل مَن يطارد القطط الآن، بعض الناس إذا رأى قطة في الشارع لَفَّ عليها بالسيارة معركة مع القطط.
ماذا هناك؟ قال: قتلتها.
لِمَ يا أخي تقاتل القطط؟! لكن إذا هي تعمدتك ودخلت عليك، وما دريتَ، فما عليك شيء؛ لكن أن تقتلها عمداً هكذا.
(امرأة دخلت النار في هرة، حبستها حتى ماتت، لا هي أطعمتها ولا أطلقتها تأكل من خشاش الأرض).
وفي النهاية يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:١٢] ثم قال: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنعام:١٢] وهذا مشهد آخر من مشاهد رحمة الله وهو: أن الله سوف يجمعنا يوم القيامة.
وكيف يكون هذا اليوم رحمة؟! قالوا: لأن العاصي يرى جزاءه، والمؤمن يرى ثوابه، فيطمئن قلب المؤمن، ويقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف:٤٣] لكن لو أن الله يجمعنا يوم القيامة، ويدخل العاصي والكافر النار، ويدخل المؤمن الجنة، والمؤمنون قد حرموا أنفسهم من المعاصي والذنوب، وذاك قد تمتع بالذنوب والمعاصي، يصبح من الظلم ألا يدخل هذا النار، وألا يجد هذا جزاءه الجنة، فمن كمال رحمة الله عزَّ وجلَّ أن يدخل الناس الذين عملوا بطاعته في الجنة، ويدخل الكفار الذين عملوا بمخالفاته وخالفوا شرائعه وأنبياءه النار، قال الله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنعام:١٢] والإشارة إلى جمع الله الناس يوم القيامة جاءت مؤكدة بعدة مؤكدات: ((لَيَجْمَعَنَّكُمْ)) [الأنعام:١٢] لام التوكيد، ونون التوكيد المثقَّلة الشديدة، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنعام:١٢] بيانها، وبعد ذلك: {لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:١٢] توكيد ثالث، ثم قال بعد ذلك: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام:١٢] في ذلك اليوم تظهر الموازين وتنكشف الحسابات، فيخسر الناس الذين ضيعوا أنفسهم في هذه الدنيا من طاعة الله، يخسرون أنفسهم بدخولهم النار، فهم لا يؤمنون في هذه الدنيا، ويحصل لهم بعدم الإيمان في هذه الدنيا خسارة الدارين في الدنيا والآخرة.
ثم يقول تبارك وتعالى في لفتة أخرى: {وَلَهُ مَا