للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف الإنسان من علم الله الأزلي]

إن علم الله الأزلي ليس معناه أنه ملزم لنا، وأضرب لكم على هذا مثالاً من واقع المدرسين: لو أتينا إلى أحد المدرسين وليكن في التوجيه، وجاء المدير فدخل عليه في الفصل وقال: يا أستاذ كم تتوقع نسبة النجاح عندك في الفصل في نهاية السنة؟ فالمدرس شغَّل عينه كذا في الطلاب، وراجع دفتر المكتب، ورأى العلامات والذين يتجاوبون معه في الدراسة والمجتهدين، والذين يحلون الواجبات وينتبهون للشرح، والذي عنده تفاعل مع الدرس، فذهب إلى المدير وقدم له بياناً، فقال له: الفصل فيه (٢٠) طالباً، (١٨) طالباً أتوقع نجاحهم، أما (٢) فأشك في نجاحهما؛ لأنهما مهملان؛ أولاً: كثيرو الغياب، ثانياً: أنهما ينامان بكثرة في الفصل، من حين أن يدخل يضع يده على الماسة ونام نومة إلى أن يأتي الأستاذ فيوقظه: ولد أين أنت؟ قم.

قال: سهران البارحة.

سهران في ماذا؟ أفي الجهاد؟ لا سهران على المسلسل والورقة و (البلوت) والقهوة، ويأتي في الصباح نائماً، صارت المدرسة للنوم، يأتي ليحصل التعليم فيحصل النوم.

حسناً هل أديت الواجب؟ قال: نسيت الدفتر.

حسناً والمسألة؟ قال: الامتحان بعيد يا أستاذ، لا تشدد علينا، الله يبارك فيك، يسروا ولا تعسروا.

ويستشهد بالأحاديث.

فجاء الأستاذ إلى المدير وقال: أما فلان وفلان فإنهم ساقطان، إلا إن غيرا من وضعهما.

فالمدير وضع الورقة عنده في الماسة، وبعد ذلك مرت السنة، وفي آخر السنة طلعت النتائج وجاء الأستاذ الذكي الذي يعرف طلابه معرفة دقيقة وقد تحققت نبوءته في الطلاب وظهرت النتيجة: نجح (١٨) طالباً، والطالبان ساقطان.

وبعد ذلك سألوهم الطلاب: لماذا سقطتم؟ قالا: بسبب الأستاذ فهو في أول السنة كتب ورقة للمدير وقال: نحن سنسقط.

بالله ما رأيكم في هذا العذر أهو مقبول؟! يعتمدون على ذكاء الأستاذ، هؤلاء الطلاب قالوا: إن الأستاذ في أول السنة لما سأله المدير من الذي سينجح، ومن الذي سيسقط؟ فقال: هناك طالبان سيسقطان، فنحن توقعنا أننا نحن، ولهذا لا تلومونا نرجوكم، أليس الأستاذ قد قال ذلك تلك الأيام، وقد كتب علينا في أول السنة.

هل عذرهم مقبول يا إخوان؟!! وهكذا الذي يزني ويسرق ويعصي، ولا يصوم ولا يصلي، ويعق ويرتكب المعاصي، تقول له: يا أخي! لماذا؟ قال: يمكن أن الله كتب عليَّ هذا.

مثل ذاك الذي يقول: يمكن أن الأستاذ قد سجلني مع الذين سيسقطون.

وأنا يمكن أن الله قد كتبني في الأزل أني شقي، ولهذا يمكن يا أخي أن تذبح نفسك على مذبحة (يمكن)؟ فهذه (يمكن) للاحتمالات.

الآن لو أن شخصاً دعوته وقلت له: العشاء الليلة عندنا، فقال لك: يمكن آتيك، تقبل منه، (يمكن) هذه أو تقول له: بلا يمكن، هل ستأتي؟ قل لي من أجل أن أجهز العشاء، أو لا تأتي لكي أستريح، لكن قال لك: والله لا آتي، إذاً قل: إنك لن تأتي.

لكن لو قال لك: يمكن أن آتي.

وذهبت إلى البيت، وبعد ذلك جاءتك الأفكار يمكن أن يأتي، وبعد ذلك ذهبت وأخذت الذبيحة وتريد أن تذبحها من أجل الضيف، وحين أوشكت على أن تذبح الذبيحة جاءك شعور ثانٍ يمكن ما يأتي، وما ذنب التيس الضعيف؟ دعه يعيش، ولماذا أخسر تيساً وأكلف المرأة وأتعبها بطبخ الذبيحة ويمكن أن لا يأتي، والله لا أضحي بالتيس على (يمكن) هذه.

سبحان الله! التيس غالٍ عندك لا تضحي به على (يمكن)، وتضحي برقبتك على (يمكن)؟ وتجازف بحياتك ومصيرك من أجل (يمكن)؟ وبعد ذلك ذهبت إلى الله وقدمت عليه وهلكت هلاكاً ليس بعده هلاك، فالله يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:٤٧] كل ما خطر في بالك فالنار بخلاف ذلك، فالنار اسمها نار، نحن نعرف النار والله ما توعدنا بشيء لا نعرفه، بل توعدنا بشيء وأعطانا منه نموذجاً حياً، قال: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:٧١ - ٧٣] ما معنى تذكرة؟ أي: موعظة تذكركم بالنار الكبيرة، أم هذه {وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:٧٣] أي: لكي تطبخوا عليها الطعام، وتستدفئوا بها في البرد، لكن الهدف منها حقيقة تذكرة، لكن الذي يرى أعمالنا يقول: هؤلاء لا يعرفون النار أو ضد النار، فإما أننا لا نعرف النار -وكلنا نعرف النار- وإما أنا ضد النار، ولسنا ضد النار، والذي ضد النار لا يأخذ له جمرة من الجمرات بل يأخذ له عود كبريت يولعه ويصبر عليه، فإذا وصلت النار إلى العود مما يلي إصبعه وأحرقته فلا يفكها، دعها تؤلمه قليلاً، يصبر ويتصبر ويتصبر، يرى إلى أي مدى يتحمل النار، والله ما يتحمل النار، لكن يهلك نفسه بالذنوب والمعاصي وترك الطاعات والواجبات ويكون مصيره الدخول في نار الآخرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، ولولا أنها أطفئت في الماء مرتين ما استمتعتم بها) هي جذوة أصلها من النار ثم أطفئت حتى خمدت، ثم بقي فيها نار تحرق فأطفأها الله حتى خمدت، ثم بقيتها النار هذه التي عندنا! ولذا ورد في بعض الآثار: [لو خرج أهل النار من النار ووجدوا نار الدنيا مشتعلة لقالوا فيها قِيلة، ولعاينوا فيها نوماً] نار الدنيا يعاينوا فيها نوماً، لماذا؟ لأن نار الآخرة يقول الله فيها: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} [النبأ:٢٤] يقول: البرد هنا هو النوم، فلا يوجد نوم، كيف تنام وأنت في عذاب؟ أيضاً أهل الجنة لا يذوقون النوم، لماذا؟ لأن النوم يفوت عليهم النعيم، كيف ينام وهو في نعيم، فالنوم جعل في الدنيا لغرض: من أجل إعادة نشاط الجسم، فالإنسان إذا تعب ينام قليلاً فيقوم وهو نشيط، لكن في الآخرة لا يوجد تجديد ولا تعب، كلها نعيم في نعيم، فإذا نام فاته جزء من النعيم؛ فاته الحور والقصور، والحبور والسرور، فهل ينام؟ لا، لا نوم فيها، لكنَّ الذي في النار لماذا ينام؟ إذا نام استراح من العذاب، ولهذا المريض الذي أصبح متعباً ونام قليلاً قال: والله إني وجدت قليلاً من الراحة، رقدت، وتخلصت من ألم، ولكن هذا إذا رقد فاته العذاب، فلا يرقد ولا ينام ليزداد عذابه، ولا ينام هذا في الجنة ليزداد نعيمه.