[صبر موسى عليه السلام في طلب العلم]
- وفي قصة موسى عليه السلام عظة وحكمة، فقد وقف موسى خطيباً في بني إسرائيل وقال: ما على وجه الأرض أعلم مني، فأوحى الله إليه وقال: لا.
يوجد في الأرض أعلم منك، وكان قد نسي أن يقول: إلا الله، فدله الله على عالم في أقصى الأرض، في طنجة في مجمع البحرين، في ملتقى البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، في مضيق جبل طارق، الذي بين أسبانيا والمغرب، وقد كان موسى يعيش في أطراف مصر بالقرب من فلسطين، فانظر كيف قطع هذه المسافة عبر مصر ثم ليبيا ثم تونس ثم الجزائر ثم المغرب.
رحلة طويلة، فأخبره الله، وشد رحله وأخذ صاحبه وفتاه وخرج.
وقال: يا رب! كيف أعرف هذا الرجل؟ أريد علامة، قال: معك هذا الحوت الميت المحنط المملح إذا عادت الروح إلى هذا الحوت فانظر الرجل هناك.
ثم مشى حتى وصلا إليه، ولما وجده {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:٦٦] قال له: أريد أن أمشي معك فعلمني، قال: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٦٧] العلم يتطلب صبراً، وأنت رجل تريد العلم في يوم وتعود، ليس عندك صبر فلا تصلح، قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف:٦٩] انظروا أدب طالب العلم، إني إن شاء الله صابراً، وبعض الناس يريد طلب العلم في ليلة، قال: حضرنا ندوتين وثلاث، وما وجدنا إلا كلام.
إن العلم يريد منك أن تعطه كلك ويأتيك بعضه.
: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:٨٥].
ومن قال: إنه قد علم فقد جهل، فقال له: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} [الكهف:٧٠] كن مؤدباً، طالب العلم لا يسأل، إلا إذا قلت لك وعلمتك فاسأل: {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف:٧٠] فمشوا وركبوا في السفينة، ولما ركبوا قام الرجل وأخذ المخراق والمطرقة وقام يخرق السفينة ويدق فيها، يريد موسى أن يسكت وهو نبي، والنبي بعث للإصلاح وليس للإفساد.
ونظر أن هذا إفساد وتخريب للسفينة، والسفينة هذه لمساكين وليس معهم إلا هي، وكيف تخربها ونحن ساكتون ونغرق وتغرق، فقال له موسى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:٧١] ولم يصبر: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٧٢] ألم أقل لك: لا تسأل؟! {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:٧٣] يقول له: اعذرني فقد نسيت.
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:٧٤] دخلوا في قرية ووجدوا الأطفال يلعبون، فأمسك بواحدٍ من الأطفال، أخذ برأسه فذبحه وفصل رأسه عن جسده، فغضب موسى.
فقال: ما هذا الرجل الذي عنده علم وهو يذبح الناس؟! {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:٧٤] هناك قال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:٧١] وهنا قال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:٧٤] يعني: هذا منكر ولا نصبر عليه، قال له: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٧٥] هناك قال: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ} [الكهف:٧٢] وهنا قال: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} [الكهف:٧٥ - ٧٦].
قال: أعطني فقط فرصة أخيرة، ودائماً العالم من شأنه ألا يغضب على طالبه من أول مرة ويطرده، انظر أعطاه المرة الأولى والثانية والثالثة، وبعد الثالثة لم يقبله أبداً، قال له: امض، {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف:٧٧] وكان أهلها بخلاء، فلم يعطوهم شيئاً ولم يضيوفهم، وإذا بجدار سيسقط، فبنى الخضر الجدار، فتعجب موسى وقال: عجيب أمرك، هؤلاء لا يضيفوننا وأنت تبني جدراهم، على الأقل خذ عطية على هذا: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:٧٧ - ٧٩] فيقول: أنا خرقتها لا لأغرقها ولكن خرقتها لتنجو، ولئلا يأخذها الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً، فالخرق هنا فيه مصلحة، ولكن هذه المصلحة يعرفها الخضر ولا يعرفها موسى، رغم أن موسى نبي، لكن عند الخضر علم ليس عند موسى.
قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:٨٠] وقد علم الله من هذا الولد أنه ضال وفاجر، وسوف يرهقهما طغياناً وكفراً: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:٨١] يقول: نقتله حتى لا يكون سبباً في كفر والديه.
قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:٨٢].
يقول عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أخي موسى لو صبر لقص علينا الله من خبرهما ما شاء) يقول: لو صبر لأراه الله من الخضر الشيء العظيم، لكن لم يصبر واستعجل، وقال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:٧٨] ثم لما أراد موسى أن يرجع دعاه -والحديث في البخاري - الخضر فقال: يا موسى! قال: نعم، وقد نظر إلى المحيط الأطلسي وفيه طائر من عصافير البحر يقف على طرف البحر، يركز منقاره في الماء ثم يأخذ له قطرة ثم يرفع رأسه لكي تنزل هذه القطرة قال: أترى هذا العصفور ينقص من البحر؟ قال: لا، قال: والله ما علمي وعلمك وعلم الناس أجمعين بالنسبة لعلم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر.
والله يقول: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:٢٧]، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:١٠٩] لو أنه مداد أي: حبر بكلمات الله لانتهى البحر ولم ينته ما عند الله عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:٩٦].
وفي هذه القصة أحكام وفقه نذكره: - أولاً: على طالب العلم أن يتواضع، فلا يرفع رأسه ويقول: أنا عندي شهادة، وعندي (ماجستير)، وعندي (دكتوراة)، والناس يسمعون كلامي، وأنا عالم، وصاحب مركز، لا.
عليك أن تتواضع وإلا سقطت من عين الله عز وجل، وإذا سقطت من عين الله سقطت من كل عين؛ لأن قلوب العباد بيد الله، هذا موسى قال: ليس في الأرض أعلم مني.
ونسي أن يقول: إلا الله، فأراه الله أن في الأرض من هو أعلم منه.
- ثانياً: على طالب العلم أن يصبر ويصابر ويتأدب، ولا يتعجل على استعجال العلوم من العالم.
- ثالثاً: يجب أن يلتزم العقد الذي شرط عليه الشيخ، فإذا كان الشيخ قد قال له: لا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً، إذا قال لك الشيخ: لا تأتي إلا بعد العصر، لا تأتني إلا بعد المغرب، لا تظل تنازعه، تقول: لا والله بعد المغرب عندي عمل، اذهب إلى عملك ما عليَّ منك، أنا أعطيك؛ لأن العالم إذا أعطيته قلبك أعطاك علمه، وإذا أعطيته صلفاً، طردك، فيجب أن تكون متأدباً بكمال الأدب مع العالم.
وكذلك يجب على العالم أن يراعي ضعف تلميذه، وألا يغضب عليه وألا يرده، بل عليه أن يتحمله حتى لا يأخذه بأول غلطة.