للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضعف الإيمان]

من أسباب سوء الخاتمة وهو آخرها: ضعف الإيمان: لأن الإيمان في مذهب السلف: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان.

هذه عقيدة الأمة.

الإيمان شيء في قلبك، كلما زدت في الطاعات كلما زاد إيمانك، مثل الشجرة التي كلما سقيتها وشذبتها ورعيتها نمت وترعرعت وأثمرت، وكلما ضايقتها وحرمتها الغذاء وأعطيتها البنزين كلما ذبلت حتى تموت، فغذاء إيمانك الطاعات، وموت إيمانك المعاصي، وضعف الإيمان سبب من أسباب سوء الخاتمة.

الآن الكهرباء تتفاوت في القوة، فهناك لمبة قوة الوات فيها خمسمائة أو ألف وات؛ هذه التي يسمونها الكشافات الهيلوجين، كشاف يكشف لك مدى كيلو، هذه فيها تيار كهربائي وهو قوي جداً، وهناك تيار كهربائي في اللمبة التي نسميها نحن (السهارية) القوة فيها خمسة وات، تلك خمسمائة وهذه خمسة، هذه كهرباء وتلك كهرباء، لكن هذه كهرباء ضعيفة لا تنفعك في شيء، إذا كنت نائماً على فراشك وأردت أن تقرأ كتاباً والكهرباء سهارية، لا تستطيع أن تقرأ؛ لأن ضوءها ضعيف، هل تستطيع أن تدخل الخيط في خرق الإبرة على ضوء السهارية؟ لا تستطيع، هل تستطيع أن تبحث عن حاجاتك؟ لا يمكن.

رغم أنه يوجد كهرباء، إلا أنها ضعيفة، لا تسمن ولا تغني من جوع، إذا أردت أن تنتفع بالكهرباء جيداً أشعل مائة شمعة أشعل مائتي شمعة ولهذا الناس في إيمانهم الآن يتفاوتون؛ من الناس من إيمانه مثل الشمس يضيء للعالم، ومن الناس من إيمانه مثل القمر، ومن الناس من إيمانه مثل أكبر لمبة يضيء لنفسه ولقريته ولمدينته ولأهله، ومن الناس من إيمانه ضعيف إلى درجة أنه لا يضيء لنفسه؛ يقع في المعاصي والذنوب والآثام ولا ينتفع بإيمانه، رغم أن عنده إيمان، لكن إيمان ضعيف والعياذ بالله! وضعف الإيمان يضعف حب الله في قلب العبد، ويقوي حب الشياطين والمعاصي والدنيا في قلبه، ويستولي على القلب بحيث لا يبقى في القلب موضع لحب الله تعالى، إلا من حيث التصور وحديث النفس، يعني: لم يبق شيء عملي، يبقى فقط شيء نظري، ذهني، أي: لا يظهر شيء عملي في القلب مما يظهر أثره في سلوك العبد، فلا يمتنع عن ارتكاب معصية، ولا يقوم إلى طاعة؛ لأنه منهمك في الشهوات، مرتكب للسيئات، فتتراكم ظلمات الذنوب والخطايا والآثام في قلبه والعياذ بالله، فلا تزال تطفئ نور الإيمان وتضعف قوته إلى أن يأتي الموت، فإذا جاءت سكرات الموت ازداد حب الدنيا في قلب العبد ضعفاً؛ عندما يرى الإنسان أنه سوف يفارق هذه الدنيا وهي محبوبة إليه، وحبها غالب على قلبه، لا يريد تركها، ولا مفارقتها، فيرى ذلك رب العزة والجلال من قلبه والعياذ بالله فينقلب ذلك الحب إلى بغض لله وللقاء الله، فإذا خرجت روحه في هذه اللحظة وهو يبغض لقاء الله ولا يحب لقاء الله، ويحب الاستمرار في الدنيا والإخلاد إلى الدنيا، حينها يختم له بسوء الخاتمة، فيخرج من الدنيا مغضوباً عليه والعياذ بالله، فكل ذلك من أسباب ضعف الإيمان، فقو إيمانك يا عبد الله.

ذكر أهل العلم قصة عن سليمان بن عبد الملك، لما خرج حاجاً -وهو من خلفاء بني أمية- ووصل المدينة، سأل: هل هنا رجل من الصحابة؟ قالوا: لا.

قال: هل هنا رجل من التابعين الذين أدركوا الصحابة؟ قالوا: نعم يوجد.

فدل على أبي حازم، فجيء به، فلما أتاه قال له: يا أبا حازم! ما لنا نكره الموت ونحب الحياة؟ فقال له: [يا أمير المؤمنين! إنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب].

هذه طبيعة في النفس؛ إذا كان عندك عمارة جديدة، مفروشة مطلية، مهيأة، وعندك عشة أو بيت شعبي قديم متشقق وغير جيدة، والعنكبوت قد عشش فيه هل تحب أن تنتقل من (الفيلة) الجديدة إلى هذا البيت؟ حتى أولادك لو قلت لهم: ما رأيكم أن نذهب إلى ذلك البيت؟ يهربون منه ويقولون: والله لا ننام فيه ليلة واحدة، لماذا؟ لأنهم قد تعودوا على السقوف المنقوشة، وألفوا العمارة الفارهة، فالإنسان الذي يعمر داراً ويخرب أخرى لا يحب أن ينتقل من العمران إلى الخراب.

يقول: أنتم عمرتم ديناكم لكنكم خربتم آخرتكم، فلا تحبون الانتقال من دار عمرتموها إلى دار خربتموها، قال: صدقت.

ثم قال: ليت شعري مالنا عند الله؟ يقول: الله أعلم مالنا عنده.

قال: اعرض نفسك على آية في كتاب الله، قال: وما هي؟ قال: قوله عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:١٣] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:١٤].

هذه الآية ميزان ديني، تعرف به نفسك، هل أنت من الأبرار أو الفجار؟ الأبرار من هم؟ عباد الله الصالحين، الذين سلموا قيادتهم لله، وأخضعوا حياتهم لأوامر الله، فلا يمكن أن يتحركوا ولا يسكنوا إلا بأمر الله، هؤلاء أبرار، أما الفجار فهم الهاربون عن الله؛ الذين تحكمهم الأهواء والرغبات والشياطين -والعياذ بالله- ولا يطيعون لله أمراً ولا يقيمون له ولا لرسوله وزناً، ولا لكتابه محبة، هؤلاء فجار، وقد بين الله ذلك بهاتين الآيتين: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:١٣] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:١٤].

قال له: فأين رحمة الله يا أبا حازم؟ قال: رحمة الله قريب من المحسنين.

ومن يتصور أنه يحصل على رحمة الله وهو يعمل الذنوب والمعاصي؟ يقول ابن القيم: هذا من سوء الظن بالله؛ إذا ظننت أنك تعصي الله وهو يعطيك على المعصية ثواباً؛ لأنك تتهم الله أنه لا يعرف كيف يجازي عباده.

إن لله في الكون سنناً، ومن سننه أنه قال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:٣١] لكنك تقول: لا.

ليجزي الذين أساءوا بالحسنى.

الله أكبر! هذا غلط، وسوء ظن بالله عز وجل، يقول الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:٨٩ - ٩٠] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص:٨٤] ويقول الله عز وجل: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠] وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦].

فرحمة الله إذا أردت أن تنالها فتعرض لها بطاعته، أما أن تتعرض لها فهذا خطأ ومن سوء الظن بالله عز وجل.

وقد ضربت في مرة من المرات مثلاً بموظف عند مدير، وهذا الموظف سيئ السلوك، قليل الإنتاج، ضعيف التصرف، لا يحضر الدوام إلا متأخراً، وينصرف قبل الدوام بساعة، وإذا أعطاه مديره عملاً ما أثقله عليه! يريد أن يمرر أي عمل، وإذا عمل لا يخلص في عمله، المهم لا يوجد عنده إتقان ولا انضباط، ومع ذلك يتطلع كل يوم إلى الترقية، وإلى العلاوة، وإلى الدورات، والانتدابات، وتحسين الوضع، ما رأيك هل يعطيه المدير هذه الأشياء وهو على هذا الوضع؟ لا.

لا يعطيه.

من يعطي المدير؟ المدير يعطي الترقية والعلاوة والدورة والانتداب والتقرير والتكريم والتفضيل وتحسين الوضع للموظف المثالي، صاحب الإنتاجية المتناهية، والدقة العظيمة، والإخلاص، والأداء المتميز، والحضور المبكر، والمرابطة الدائمة على العمل، ومن إذا عمل معاملة تقرأها وأنت مغمضٌ لعينيك، أي: لا تطمئن إلا لعمله، لماذا؟ لأنه يعملها بقلبه؛ لا يمررها بأي وسيلة، وليس هدفه أن يدحرج المعاملة ويمشيها من عنده ويقول: تخلصنا منها، خذها مني، لا.

يحب أن يتقن في عمله المضبوط، هذا إذا جاءت الترقية يرى اسمه؛ لأنه أهل لها، يتعرض للترقيات بالعمل ولا يتعرض لها بالأماني الكاذبة، وأنت إذا كنت تريد الترقية في الجنة، والنجاة من النار، تعرض لذلك بالعمل الصالح، أما أن تعمل السيئات؛ تزني وتسكر وتترك الصلاة، وإذا قيل لك: يا أخي! اتق الله، تقول: الله غفور رحيم.

نعم، لكن ليس لك يا أخي، غفور رحيم لمن يعمل الصالحات؛ لأن الله تعالى يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:٤٩ - ٥٠].

الرحمة والغفران لمن يستحقها، والشدة والعذاب لمن يستحقها، وهؤلاء استحقوها برحمة الله، لقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:٨٢]، وبقوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر:٧].

فقال له: يا أبا حازم! كيف العرض على الله؟ قال: [يا أمير المؤمنين، أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق يقبض عليه سيده].

وهذا المثل من أعظم ما يقال في هذا الموقف؛ لأن الغائب عن أهله إذا قدم عليهم بعد طول سفر، وقد جمع له مبلغاً من المال وأتى بالهدايا لأمه وأبيه وزوجته، ولإخوانه وأولاده ولأقاربه ولجيرانه، ثم دخل أول ليلة وأرسل لهم برقية بوصوله في ليلة كذا، بالله ما ظنكم فيه تلك الليلة، أليس في غاية السرور والابتهاج، والفرح، لماذا؟ لأن الدنيا كلها فرحت به؛ لأنه جاء بشيء.

لكن ما رأيكم بمن جاء وليس معه نقود؛ اغترب ثم عاد مفلساً، مثلما يغترب بعض الناس؛ يعيش كل حياته في القهاوي وعلى الشيش -والعياذ بالله- والدخان والمنكرات ثم لا يأتي بشيء، يقولون له: ذهبت وعدت كما كنت، لا كثر الله خيرك! لماذا ذهبت؟ أمن أجل أن تعيش، أم من أجل أن تحصل على نقود، وتنفع نفس