[ضرورة تلاوة القرآن وتدبره والعمل بمقتضياته]
قراءة القرآن أرجو ألا يتصور بعض الناس أنها فقط مجرد التلاوة، بل هي التلاوة والعمل بمقتضاها، إذ مجرد التلاوة بدون عمل لا تغني ولا تنفع، فلو أن لك -ولله المثل الأعلى- ولداً يدرس في أبها وأنت في مكة وأرسل لك ورقة من أبها كتب فيها إليك: يا أبي إن البرد القارس يقطع أوصالي ويفتت عظامي، وأنا أعيش في غرفة وليس معي مدفأة أتدفأ بها ولا معطف ألبسه، والناس من حولي معهم المعاطف و (العبي) وأنا لا أملك نقوداً، ولهذا أطلب منك يا والدي أن ترسل لي بألف ريال أشتري بها مدفأة وملابس، ولما وصلت الرسالة إلى والده في مكة وهو جالس في الحر والدفء تأثر حقيقة، فقرأها فبكى، وقرأها على أمه فبكت، ولكن ما أرسل نقوداً، وبعد ذلك جاء الولد وقال: يا والدي أرسلت لك رسالة فهل وصلتك؟ قال: نعم.
بلغتني، والله لقد أثرت فيَّ هذه الرسالة، وبلغت مني كل مبلغ، وقرأتها وتقطع قلبي لما بها، وبكيت، قال: يا أبي أنا ما أرسلتها لكي تبكي، أرسلتها لكي تعطيني ألف ريال، ما رأيكم بهذا الأب هل هو صادق في تأثره؟ لا بل كاذب في تأثره، ولو أنه متأثر حقيقة فمن يوم قرأها يمشي إلى البنك ويحول لولده بألف ريال من أجل أن يستدفئ ولله المثل الأعلى.
الله أنزل هذا القرآن لنعمل به وليس لنقرأه فقط، فالآن لو أنك موظف وجاءك تعميم من الوزارة أو من الإدارة وقال لك مدير الإدارة: الإخوة الموظفون! للإطلاع والتوقيع بالعلم، وطلب منك أن توقع في التعميم بالعلم، ماذا يتطلب منك الأمر? يتطلب منك أن تقرأ التعميم، فمن الذي يوقع قبل القراءة؟ ولو أن شخصاً وقع قبل القراءة ماذا نسميه؟ نقول: هذا مغفل وأحمق، توقع على تعميم أتى من الوزارة وما قرأته، افرض أن فيه قرارات افرض أن فيه شيئاً.
والتعميم الرباني من الله، تقرأ القرآن ولا تعلم ماذا هناك، تقرأ قول الله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:٣٦] وأنت تسمع الأغاني، كم مرة سمعت أن الأغاني حرام، وكم مرة قرأت هذه الآية، وما انتهيت عن الأغاني، فما معنى هذا? معناه: إصرارك على أن تعصي الله على علم، يكفي -يا أخي- أنت عبد الله، بمجرد أمر واحد أو فتوى واحدة أن الأغاني حرام فتمتثل ولا تستمع، هي قرآن الشيطان ووحي إبليس وهي ضد القرآن، فلماذا تعاند ربك وتستمر عليها وأنت تعلم أنها حرام، وأنت تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول والحديث في صحيح البخاري: (ليكونن في آخر الزمان أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) وهناك حديث مرفوع وقيل موقوف على ابن مسعود: [الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل] وفي بعض الآثار: [من استمع إلى مغنية صب الله في أذنيه يوم القيامة الرصاص المذاب] وفي سنن ابن ماجة حديث عن عمرو بن قرة الجهني قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: (يا رسول الله! ما أراني أُرزق إلا من دفي بكفي -فهو لديه دف يضرب به على أولاد المدينة فيعطونه تمراً فيأكل، فهو يقول ليس عندي عمل- فرخص لي يا رسول الله -سهل لي فيها أمراً في غير ما فاحشة، يقول: ما أريد أن أغني بفاحشة- قال صلى الله عليه وسلم: قم يا عدو الله كذبت، والله لولا أنك سبقت بالتقدمة لحلقت رأسك ولجعلت مالك نهبة لصبيان المدينة) فقام وبه من الذل ما لا يعلمه إلا الله، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن هذا ومن هو على شاكلته يبعثون يوم القيامة عرايا لا يستترون بهدبة كلما قاموا صرعوا) هؤلاء أهل الفن، يخلده الفن في النار، ولهم عواء كعواء الكلاب في جهنم -والعياذ بالله- فلا تقترب منهم -يا أخي- ولا تكن مشجعاً لهم ولا تكن من جمهورهم.
كن من أهل القرآن ومن المشجعين لكتاب الله، كن من أهل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ابن القيم رحمه الله:
برئنا إلى الله من معشر بهم مرض من سماع الغنا
فعشنا على سنة المصطفى وعاشوا على دندنا دندنا
و (يا عين) و (يا ليل) وبعد ذلك يتجرع نتائجها يوم القيامة فلا حول ولا قوة إلا بالله! فيا أخي المسلم! العبرة من التلاوة أن تعمل بالتلاوة: {إِنَّ السَّمْعَ} [الإسراء:٣٦] عرفت هذا، فلا تستمع إلى غيبة، ولا نميمة، ولا قول زور.
{وَالْبَصَرَ} [الإسراء:٣٦] لا تنظر إلى الحرام، ولا تملأ عينك الحرام (من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم) ما معنى أن الله تعالى يقول لك: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النور:٣٠] من هم المؤمنون؟ أهل روسيا أو بريطانيا؟ لا.
بل أنت الذي ولدت في بلد الإسلام ومن أهل الإيمان: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:٣٠].
ولكن بعض الناس يقرأ الآيات ويسمع القرآن وإذا رأى امرأة نظر بعينيه وحركها بشرهٍ، يعني: يريد أن يبتلعها بعيونه، الله تعالى يقول: غضوا، وهو يقول: فتحوا، أعوذ بالله! هذه العين ما علاجها إلا من جهنم؛ لأن (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركه ابتغاء مرضاة الله أبدله الله إيماناً في قلبه يجد حلاوته إلى يوم يلقاه) كما ورد في الحديث.
{وَالْفُؤَادَ} [الإسراء:٣٦] فلا تفكر ولا تسر إلا فيما يرضي ربك، فلا تمش بقدمك إلى حرام، ولا تمدَّ يدك إلى حرام، ولا تتكلم بلسانك في حرام، وقيد نفسك بتعاليم القرآن، وكن قرآناً متحركاً، وكن قرآناً حياً كما قالت عائشة لما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن) والحديث صحيح.
تريد خلق النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] فخلقه القرآن، وتعاليم القرآن كلها انعكست وتمثلت في شخصه صلى الله عليه وسلم.
فاقرأ القرآن، واعمل بالقرآن، واستشف بالقرآن، واحتكم إلى القرآن، وتدبر القرآن، تعلم القرآن، احفظ القرآن، كن قرآناً؛ لأنك إذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله فاسأل نفسك عن منزلة القرآن في قلبك، فإن كان للقرآن منزلة في قلبك فاعلم أن لك منزلة عند الله، وإن كان لا يوجد للقرآن منزلة في قلبك فاعلم أنه لا منزلة لك عند الله.
ومن الناس -والعياذ بالله- من إذا حرك مؤشر المذياع وسمع قرآناً كأنك ضربته على وجهه، لا يريد ريح القرآن، فإذا وجد أغنية استقر عليها وانبسط، فيعرض عن الله ويبتعد -والعياذ بالله- وهذا مدبر ولا خير فيه.
والله أسأل في هذه الساعة المباركة ولعلها ساعة إجابة، أن يشرح صدورنا وإياكم إلى الإسلام، اللهم اشرح صدورنا، ويسر أمورنا، واغفر لنا في دنيانا وآخرتنا، واجمعنا وجميع أحبائك إخواناً في الله في دار كرامتك، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.