[قصة نوح عليه السلام مع قومه]
هاهو التاريخ أمامنا بدءاً بنوح عليه السلام، والذي بدأ دعوته في أمته ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومارس معهم جميع وسائل وأساليب الدعوة سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، وبعد ذلك ذكرهم بنعم الله، وقال: إن الله أعطاكم ومنَّ عليكم ورزقكم، فاشكروا الله عز وجل: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطاً * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح:١٠ - ٢٠] وبعد مزاولات وممارسات طويلة ومتنوعة في سبيل هدايتهم، رفضوا، قال عز وجل: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} [نوح:٢١] {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح:٥] * {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً} [نوح:٦] * {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:٧] فإذا جاء ووقف بينهم وهم جالسون في مجموعات، وقال: اتقوا الله، واعبدوا ربكم، قالوا: ماذا تقول؟ ويجعلون أصابعهم في آذانهم، وبعد ذلك يأخذ الواحد منهم ثوبه أو إزاره ويغطي وجهه، ويقول: لا أريد أن أراك، ولا أريد أن أسمع كلامك {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ} [نوح:٧ - ٩] أي: دعوتهم دعوة جهرية على الملأ {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:٩] إلى آخر الآيات.
وبعد ذلك قال وقد دعا الله: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:٢٦] لكن ما قالها نوح -كما يقول المفسرون-: إلا بعد ممارسة؛ لأن بعض الناس الآن يدعو إلى الله مرة واحدة، فإذا لم يجد استجابة، يقول: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:٢٦] يقول: أخي هذا ليس فيه خير، أو أبي هذا شرير ليس فيه خير، أو زوجتي هذه ليس فيها خير، كم سنة دعوتها؟ أدعوتها سنة، أو سنتين، أو ثلاثين سنة، أو تسعمائة وخمسين سنة؟ قال: لا.
كلمتهم في الدين فرفضوني، عجباً: إنها قضية مسلمة، كيف تريد من شخص يعيش على المعاصي مدة ثلاثين سنة أن تكلمه كلمة واحدة فيرجع إلى الله؟ شخص قضى من عمره في المعاصي يحتاج منك دعوة مدة ثلاثين سنة حتى يرجع إلى الله، أما بمجرد كلمة فلا يمكن أن تغير الناس بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب وبهذه السهولة، فلا بد من الصبر، والمعاناة، وتغيير الأساليب، والتفنن والتنويع، حتى يهديه الله عز وجل، يقول الله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:٣٥].
فنوح عليه السلام ما قصر في دعوته، فقد مكث تسعمائة وخمسين سنة لا تشغله إلا الدعوة إلى الله، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، بكل الأساليب، وبعد بذل الأسباب، وبعد معرفةٍ وصبرٍ وخبرة في أن هذه النوعية من البشر نوعية خبيثة لا يمكن أن تهتدي، قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:٢٦] لماذا؟ قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح:٢٧] من هم عباده الذين أسلموا؟ وكم عدد الذين أسلموا؟ قضى من عمره تسعمائة وخمسين سنة، فكم ثمرة هذه الدعوة؟ في أصح الروايات: أنهم بلغوا اثنا عشر رجلاً، فيقول نوح وهو خائف عليهم: يا رب! إذا ما أهلكت أولئك الكفار، فإن هؤلاء الاثني عشر سيضلون؛ لأن أولئك عندهم بالليل والنهار ليضلوهم: يا رب! نجّ هؤلاء الاثني عشر، أما البقية فأغرقهم ودمرهم، ولأنه لا يتصور أنه سيأتي منهم نسل طيب، قال: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:٢٧] فهم سيئون وأولادهم فجرة كفار.
عندها استجاب الله عز وجل دعوته، فقال الله عز وجل له: {اصْنَعِ الْفُلْكَ} [المؤمنون:٢٧] وكان يصنع الفلك في صحراء وليس في بحر {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ} [هود:٣٨] قالوا: ما هذه يا نوح؟! قال: هذه فلك، قالوا: أين البحر يا نوح! أتصنع فلكاً في الصحراء؟ فسخروا منه، وقالوا: تعالوا وانظروا إلى نبيكم هذا، أليس مجنوناً؟ أيصنع سفينة في الصحراء؟! ولكن كان عنده ثبات على دينه وعقيدته، وكان يقول: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:٣٨] * {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود:٣٩] فاضحكوا الآن، لكن فيما بعد سترونها تجري في البحر.
هكذا أهل الإيمان يثبتون على دينهم ولا يتزعزعون لمجرد سخرية أهل الباطل، فأهل الباطل يسخرون منك، إذا رأوك أعفيت لحيتك، قالوا: (أوه مطوع معه لحية) فقل: نعم.
مطيع لله، وأقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن بعض الناس إذا قيل له: (مطوع) سكت وذهب يحلقها، تقول له: ماذا بك؟ قال: يا شيخ! كل من رآني قال: (مطوع) لا إله إلا الله! ألا تصبر على كلمة مطوع؟ والصحابة حلقوا رقابهم في سبيل الله، وأنت لا تصبر على كلمة (مطوع) أتريد الجنة وأنت لا تصبر على كلمة واحدة؟ فأين الإيمان؟ لا إله إلا الله! ولما انتهى من صنع الفلك، قال الله عز وجل له: {فَاسْلُكْ فِيهَا} [المؤمنون:٢٧] أي: أركب جماعتك، خذ معك {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [المؤمنون:٢٧] من جميع المخلوقات: من الحيوانات، والسباع، والطيور؛ لأن الأرض ستنتهي كلها.
فالحياة فنيت في عهد نوح إلا من ركب السفينة، وما بقي في الأرض أحد من الناس، والطيور والهوام والسباع والوحوش.
فأخذ معه من كل زوجين اثنين ذكر وأنثى، من أجل أن يستمر التوالد وتستمر الحياة.
وبعد ذلك قال الله عز وجل: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون:٢٧] وبعد ذلك ركبوا في السفينة، ولما استقروا فيها، قال الله عز وجل: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:١١] * {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} [القمر:١٢] أي: فجر الله الأرض عيوناً، وحتى التنور الذي يوقد فيه النار، هل يتوقع أن يخرج منه ماء؟ فيصبح مكان النار ماءً؟ قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:٤٠] فار التنور بالماء، قال الله عز وجل: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:١٢] أي: فالتقى ماء السماء مع ماء الأرض على أمر قد قدره الله {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:١٣] الدسر أي: المسامير {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:١٤] هذه السفينة سفينة ربانية لا تجري بالذرة، ولا بالفحم الحجري، ولا بالديزل ولا بالبنزين {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:١٤].
وبعد ذلك يشفق نوح وتنتابه عاطفة الأبوة، ويقول لربه عز وجل: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:٤٥] وأنت قد قلت: وأهلك، ظن نوح أن الأهلية هنا: أهلية النسب، وأنه جمع أولاده وما علم أن الأهلية هي: أهلية العقيدة والدين، فقال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:٤٥] وأنت وعدتني بنجاة أهلي، وولدي رفض أن يركب، وقلت له: {ارْكَبْ مَعَنَا} [هود:٤٢] قال: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:٤٣] فيا رب! لا تغرقه؛ لأنه من أولادي، قال الله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:٤٦] فما الذي أهلكه؟ عمله الغير صالح، وما الذي نجى نوحاً والاثني عشر معه؟ العمل الصالح.
فتدمير وإغراق كامل للكون والحياة من أجل الكفر، وإعمار ونجاة لسفينة تجري بعين الله من أجل الإيمان والعمل الصالح، ثم بعد نوح خذ سلسلة الأنبياء: فرعون وما عمل الله به من إغراق، فروحه إلى النار، وجسمه إلى الغرق، فقصة هود مع قومه، وصالح مع قومه، وشعيب مع قومه، وموسى مع بني إسرائيل وفرعون، وعيسى مع قومه، ومحمد صلى الله عليه وسلم مع الكفار في مكة، فماذا حصل لأقوامهم؟ دمر الله عليهم.
في غزوة بدر الفاصلة، وقف النبي صلى الله عليه وسلم على القليب؛ وهو حفرة فيها مجموعة من رءوس الكفر عقبة بن أبي معيط وأبو جهل وأمية بن خلف، وهم الرءوس الكبار، فوقف عليهم وقال: (هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، أما أنا فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال الصحابة: يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد ماتوا؟ قال: والذي نفسي بيده! إنهم لأسمع لكلامي منكم) فما الذي ذهب بهم إلى