[مصير المكذبين بالبعث يوم القيامة]
ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم صوراً ونماذج من كفرهم وتكذيبهم وذمهم ومقتهم وتهددهم وتوعدهم، يقول الله في سورة الرعد: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:٥] بعد أن ذكر الله في أول السورة جولة في آثار خلق السماوات والأرض قال بعد ذلك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:٤] قال: وإن تعجب يا محمد فإن ما يثير عجبك هو تكذيبهم بالعبث والنشور بعد أن رأوا آيات الله وقدرته العظيمة في خلق السماوات والأرض: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:٥].
ثم وصفهم الله فقال عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد:٥] أي: هذا جاحد؛ والجاحد لا حيلة معه، هذا أول وصف: {وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [الرعد:٥] يعني: من العذاب يوم القيامة أن يغلّهم الله بالأغلال في أعناقهم؛ لأنهم غلّوا عقولهم، أي: قيدوها وعاشوا في سجن المادة الضيق ولم يخرجوا إلى عالم الغيب الوسيع؛ العالم الذي ينتظم الدنيا والآخرة، فلما قيدوا عقولهم وغلّوها عذبهم الله بأن غلّهم في الأعناق يوم القيامة: {وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد:٥] هؤلاء المكذبون وصفهم الله بأنهم كفار، وأنهم في الأغلال في جهنم وأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون.
وعندما أوردوا فريتهم: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:٢٩] قال الله لهم مكذباً وراداً عليهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:٣٠] يعني: بعد البعث {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:٣٠] يبعثهم الله عز وجل من قبورهم ويقررهم ويقول: أليس هذا بالحق الذي وعدكم به رسلي؟! والذي أنزلته في كتبي وحذرتكم منه؟ قالوا: بلى وربنا.
لا يوجد مجال للتكذيب؛ لأنهم رأوا الأمر رأي العين، رأوا الأمر على حقيقته فقالوا: بلى وربنا؛ يحلفون بالله في مظهر من الضعف والشفقة والتذلل والخضوع، لم يعرفوا الله عز وجل في الدنيا حتى يرحمهم يوم القيامة، ولكن لم يعرفوه إلا حينما أضاعوا الفرصة.
مثلهم مثل الطالب البليد الذي يُكذّبُ بالامتحانات، فهو يشتغل في العام الدراسي من أوله إلى آخره، والطلاب المؤمنون بصدق الإدارة والتعليم يجتهدون، لكن هذا المكذب يقول: لا أحتاج امتحانات إنها كذب في كذب من قال لكم بأن هناك امتحانات لا يوجد شيء، وعاش طوال السنة وهو يلعب ولا يذاكر، ولا يفتح حتى كتاباً، وفي آخر يوم من العام الدراسي أدخل الصالة وعزلت عنه الكتب والمواد، وقدمت له الأسئلة، ولما رآها وإذا به لا يعرف منها حرفاً واحداً، أما المجتهدون فقد بدءوا يجيبون، وأما هذا اللعاب لا يعرف حتى حرفاً واحداً، فيقول له رئيس اللجنة -ولله المثل الأعلى-: لماذا كذبت بالامتحان، أليس هذا الامتحان حق؟ فيقول: بلى يا سعادة المدير! يا رئيس اللجنة؛ يريد أن يسترحمه، أي: أخرجني واتركني أنظر إلى الأسئلة! أمهلني أراجع! أمهلني أذاكر! قال الله عز وجل: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:٣٠].
أخي ليس لديك إلا فرصة واحدة فلا تضيعها؛ لأن التصحيح صعب! نعم.
هي مرة واحدة؛ من فرط فيها خسر الخسارة التي ليس بعدها ربح، ومن اغتنمها وعمل بها ربح الربح الذي ليس بعده خسارة، وكما جاء في الحديث: ينادى يوم القيامة: ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، ثم يبيض وجهه، ويأخذ كتابه بيمينه، ويعرضه على الخلائق، وأما ذاك الساقط -والعياذ بالله- الخامل؛ ينادى عليه يوم القيامة: ألا إن فلان بن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، فيسود وجهه، ويأخذ كتابه بشماله، ويقول للخلائق: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:٢٥ - ٢٦].
ويرد الله أيضاً على طائفة من المكذبين وهم يقولون: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء:٤٩] شيء مستغرب! كيف سيعود هذا خلقاً جديداً؟!! فقال الله تعالى لهم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} [الإسراء:٥٠] أي: كونوا أصعب وأقوى شيء، كونوا حجراً أو حديداً لا بشراً من عظم ولحم: {أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء:٥١] تصوروا أي شيء أعظم من الحديد أو الحجر أو أي شيء؛ يتحداهم الله بألا يبقوا على أصل خلقتهم حتى يستحيل عليه أن يعيدهم في نظرهم، يقول: حولوا أنفسكم إلى أي مادة صعبة أو إلى أي مادة كبيرة في نفوسكم وعقولكم: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:٥١] الحجب الآن بين العالم المشاهد والعالم المغيب حدها الموت، وبعد الموت ينكشف كل شيء! ورد في الحديث: (إن المؤمن ليرى مقعده من الجنة وهو في بيت أهله).
أخبرني أحد الإخوة في قصة غريبة لرجل توفي في إحدى القرى المجاورة لمدينة أبها؛ رجل عُرف بالصلاة والأذان في المسجد، وكل أهل القرية يعرفونه ويحبونه، وعاش على هذا الوضع إلى أن توفي رحمة الله تعالى عليه وعلى جميع موتى المسلمين، وفي ليلة وفاته وبينما كان جالساً في فراشه وعنده ولده المشرف على تمريضه، وإذا به يوقظ الولد، قال: يا ولدي! قال: نعم، قال: افتحوا الباب للرجل الذي خلفي؛ لأنه لا يستطيع أن يدخل منه، قال: من هو؟! قال: الرجل الكبير الذي عليه ثوب أبيض، يقول الولد: تلفت خلفي فما رأيت شيئاً، يقول: وإذا به يوم أن جلس -الرجل عامي لا يقرأ ولا يكتب لكنه من أهل الفطرة والإسلام والدين- يقرأ آية من كتاب الله كأعظم قراءة سمعها ولده من قارئ قراءة مرتلة مجودة، يقول: والله ما أظنه صوت أبي، لكن صوت خارجي، يقول: وبعدها مال على جنبه ومات.
فالمؤمن يرى منزله من الجنة وهو في بيت أهله، والكافر والفاجر يرى منزله من النار -والعياذ بالله- وهو في بيت أهله، فما بين الآخرة والدنيا إلا هذه العتبة -أي: عتبة الموت- وسوف نقف كلنا عندها وندخل، وبعد الموت تنكشف الحجب فإما سالم وإما -والعياذ بالله- خاسر، نعوذ بالله وإياكم من الخسران.