[عاقبة المصر على ذنبه الرافض للاستجابة]
المصيبة في هذا الزمان أن كثيراً من الناس ما استجاب رغم أنه يدعى منذ زمن، كم سمع من المواعظ والخطب وقرأ القرآن وهو يُمني نفسه ويسوف به الشيطان؟ يحضر كل جمعة الخطبة، ويسمع بصريح العبارة بياناً من الله: أن الغناء حرام ولكنه مصر على الغناء، فبيته مليء بالغناء، وكأنه يعاند الله، الله يقول: {اسْتَجِيبُوا} [الأنفال:٢٤] وهو يقول: أنا مستجيب، لكن هذه لا.
يسمع كل يوم أن النظر للنساء لا يجوز، وهو مصر على النظر، ما استجاب لله في هذه الأوامر، وأن الله حرم عليه الربا، وهو مُصر على الربا، وأن الله حرم الزنا وهو يتوق إلى الزنا، وأن الله أمره بالصلوات الخمس في المسجد مع الجماعة من غير تأخير ولا تعللات، -خصوصاً العشاء والفجر- وهو لا يأتي إلا صلاة الجمعة مرة في الأسبوع، أو الظهر لأنه في الدوام، يريد أن يأخذ نصف ساعة من الدوام باسم الصلاة، ولكنه يوم الخميس لا يذهب للجماعة لأنه في البيت، أو المغرب لأنه أتى من التمشية، لكن العشاء والفجر، هنا الاختبارات الربانية لا يصمد فيها إلا أهل الإيمان، أما أهل النفاق فإن فشلهم يظهر فيها، كما جاء في الحديث -وهو صحيح- قال عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) والله لو يدري المنافق ما في الفجر والعشاء ثم ما استطاع أن يأتي إلا حبواً على قدميه وركبتيه ويديه والله ما تأخر، لكن لا يدري المسكين ما هو أجر أدائها جماعة، ولا يدري ما هو إثم التخلف عنها! لكنه سيدري عندما يدخل القبر في غرفة التحقيق، هناك يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:٩٩] يقول الحسن البصري: فتقول الملائكة: لَمَ ترجع؟ فيقول: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:١٠٠]، لكي أصلي الفجر، وأصوم، وأعمل الصالحات، فتقول الملائكة: كذبت! أنت من هناك أتيت، أنت من سبعين سنة وأنت على المعاصي والمنكرات وقاطع صلاة، ولما ضرب رأسك في القبر تقول: ردوني، أنت كذاب.
قال الله عز وجل: {كَلَّا} [المؤمنون:١٠٠] وهي أداة ردع وزجر وتوبيخ لهذا الكذاب المتلاعب، الذي يعيش ليله ونهاره بعيداً عن الله، وعند دخول القبر يقول: ردوني أعمل صالحاً، قال الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:١٠٠ - ١٠٢] أي: بالإيمان والعمل الصالح فأولئك هم المفلحون، نسأل الله من فضله {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:١٠٣] أي: ليس لديه شيء من الحسنات فهو مسكين مفلس، وإن كان عنده في الدنيا عمارة أو وظيفة، أو رصيد، أو منصب، لكن ما عنده شيء في الآخرة، ولما انتقل إلى الآخرة لم يتزود بشيء من الدنيا، فهو لا ينزل قبره بملابسه، ولا سيارته، ولا عمارته ولا أي شيء، لا ينزل القبر بالبدلة الرسمية الموحدة عند الناس كلهم: الكفن، هل هناك تمييز بين الناس في الكفن؟ لا.
الأمير والمأمور، والملك، والمملوك، والغني والفقير، والقوي والضعيف، كلهم يُدخل القبر بزي موحد، قال الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:٩٤]، أين عماراتكم ومتاعكم وأولادكم؟ لأن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:٣٥] يقولون: نحن عندنا مال ورجال، نمتنع بالمال، وندفع بالرجال، نحن أصحاب ثراء، أصحاب رءوس أموال، قال الله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:٣٧] والله لا تنفعكم أموالكم شيئاً إلا من كان عنده شيء آخر غير هذا المتاع الزائف، يقول سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:٣٧].
يقول فرعون لأهل مصر: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:٥١ - ٥٢]، كان فرعون يرى موسى في أقل درجة، وكان يقول: أنا ربكم الأعلى، لكن أين هو الآن؟ قال الله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ} [غافر:٤٦ - ٤٧] لكن ما تنفع هذه المحاجّة.
فيا عبد الله -يا مسلم- يقول الله عز وجل: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:١٠٥] ليس لهم قيمة، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:١٠٢ - ١٠٣] ما عنده شيء مما ينفع في الآخرة.
الآن لو دخل علينا في هذا المجلس ملك الموت -ألسنا على يقين بأننا سنموت كلنا- وقال: يا جماعة! يا أهل هذا المسجد! أنا مأمور بقبض أرواحكم كلكم، وكل واحد يخبرني بما عنده من زاد، وكلكم سيتكلم: أحدكم سيقول: أنا عندي صلاة، وآخر سيقول: أنا عندي قرآن، وثالث يقول: أنا عندي عمارة على الشارع العام، سيقول له: اسكت ما تنفع هذه، ويقول الرابع: أنا مدير، فيرد عليه: لا تنفعك إدارتك، الخامس يقول: أنا عندي أربعة أولاد، وعندي زوجتان، وعندي سيارة، وعندي، فيقول: كلها لا تنفع، أين أصحاب الصلاة والزكاة؟ فيقومون.
أين أهل الحج والعمرة؟ فيقومون.
أين أهل القرآن والذكر والعبادة؟ هؤلاء هم الذين سينتفعون بما قدموا، أما من كان عنده شيء من الدنيا فلا.
قال: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:١٠٣ - ١٠٥] يا من تصر على سماع الغناء، والنظر إلى الحرام، والزنا والمعاصي وأنت تسمع آيات الله تتلى عليك، أين عقلك؟ يقول الله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:١٠٥]، والتكذيب هنا تكذيب عملي؛ لأن التكذيب القولي للكفار والتكذيب العملي للمنافقين الذين يسمعون أمر الله ويرفضونه، قال الله عز وجل: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:١٠٦ - ١٠٧]، يقولون: أخرجنا لترى كيف نصنع، لترى منا العمل والعبادة؟! أيها الأخوة! أسألكم بالله، هل من المنطق والمعقول أن يسوف الإنسان بالمعاصي والذنوب حتى يدخل النار، ثم يقول رب أرجعني؟ فلم لا تعمل من الآن، أم تريد أن تجلس حتى تصل إلى ذلك المصير، ثم تطلب الرجوع ولا تجاب؟ أين عقلك؟! لا إله إلا الله!! فيكون الرد عليهم: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨] هناك تُمنع المراجعة، {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:١٠٩ - ١١٠]، تتفكهون بهم، وتسخرون منهم، فإذا رأيتم شاباً ملتزماً أطلق لحيته ورفع ثوبه، قلتم: معقد أبله، وإذا رأيتم من يسحب ثوبه ويكنس الشوارع كالمرأة، قلتم: فلان رجل اجتماعي.
{وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:١١٠] قال الله: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:١١١].