[موقف أولي العزم في المحشر]
يضج الناس في المحشر، ويذهبون إلى الأنبياء والرسل باعتبار أن لهم مكانة ومنزلة؛ من أجل الشفاعة عند الله ليقضي بين العباد ولو إلى النار، فيأتون إلى نوح أول الأنبياء والرسل، فيقول: نفسي نفسي، إن لي دعوة قد دعوتها على قومي ليس لي غيرها، ويقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله.
ومن غضب الله أن دمر الكون كله؛ لأن الساعة تقوم حينما لا يقال في الأرض: الله الله، فيغضب الله ويدمر الكون، فلا يوجد من يجرؤ على الشفاعة في ذلك اليوم.
فالآن المدير عنده السكرتير، ومدير المكتب، والمساعدون، فإذا كان غاضباً وجاء من يقول: من فضلكم! لدي معاملة وأريدكم أن تشفعوا لي عند المدير، فيقال له: المدير ليس في مزاج حسن اليوم، فاذهب وعد في وقت يكون فيه مزاجه حسناً، فيختارون الأوقات المناسبة لذلك.
في ذلك اليوم الأنبياء يقولون: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي.
فالنبي يقول: نفسي نفسي، فكيف بنا أنا وأنت -يا أخي- يوم القيامة، لا إله إلا الله! نستغفر الله من الذنوب! فإذا كان الأنبياء المعصومين الذين لا يعصون الله لا يجرءون على سؤال الله شيئاً، فكيف بالمقصرين والمذنبين أمثالنا.
فيقال: اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم، فيقولون له: ألا تشفع إلى ربنا في فصل القضاء؟ فيقول: نفسي نفسي، ويذكر أنه قد كذب ثلاث مرات، ويقول: إني أستحي أن أسأل الله وقد كذبت كذبات ثلاث.
وما هي كذبات إبراهيم عليه السلام؟ إنها كذبات من أجل الدعوة، وهي صدق فيه تورية، فالمرة الأولى: حين خرج قومه لعبادة الأوثان وتقديم القربان قال: إني سقيم، وصدق! يقول: إن في قلبي مرضاً من عبادتكم لهذه الأصنام، لا أقدر أن أخرج معكم فأنا سقيم، قلبي مريض مما فيه من عبادتكم لغير الله، لكنه من محاسبته لنفسه اعتبرها كذبة.
- والثانية: لما قام على الأصنام وحطمها وعلق الفأس على كبيرها، قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:٥٨] فلما جاءوا: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:٥٩ - ٦٠] فتىً! فأين فتيان الإسلام؟ في المقاهي والمدرجات والأرصفة، وأمام المسلسلات والدخان والجرائد والمجلات إلا من عصم الله، فكان إبراهيم فتىً من فتيان الله، من فتيان الدين: {فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ} فلما جيء به قالوا: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:٦٠ - ٦٢] فقال لهم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:٦٣] ويشير إلى الصنم بإصبعه، وهو يعني أن إصبعه هذه كبيرة الأصابع هي التي حطمتها؛ لأنه لولا وجود هذه الإصبع لما قدر الإنسان على عمل شيء، فالإصبع السبابة تعد كبيرة الأصابع، وإذا فقدت هذه الإصبع لا يستفاد من بقية الأصابع بأي حال، قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:٦٣] يعني: إصبعه، فهم ظنوا أنه يعني الصنم، قال: {فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:٦٣] وهو أراد أن يقررهم على نقص عقولهم وقلة أفهامهم، إذ كيف يعبدون من لا يمنع نفسه؟ قال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:٦٣] قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:٦٥] أي: أنت تعلم أنهم لا يتكلمون، قال: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:٦٧] لأنكم تعبدون شيئاً لا يمنع نفسه، ولا ينفع، ولا يضر.
- والثالثة: لما دخل مصر وكان حاكمها طاغية مفتوناً بالنساء؛ فلا يرى امرأة جميلة إلا أخذها، وكانت امرأة إبراهيم عليه السلام جميلة، فلما أخبروه بها وقالوا: هناك امرأة دخلت ليس لها وصف، فقال: أحضروها، ولما جيء بها ومعها زوجها، فلو قال: زوجتي، فماذا سيصنع به؟ سيذبحه؛ لأنه لا يمكن أن يسمح له بزوجته، قال: ما تكون لك؟ قال: أختي.
وصدق! فهي أخته في العقيدة والإسلام؛ لأنه ليس في الأرض مسلم إلا إبراهيم وزوجه، فقال: اجلس هنا، وأخذها الملك وذهب بها إلى حيث لا يراها زوجها، فلما أرادها دعت الله عز وجل فجمده في مكانه، حاول وحاول ولكن بدون فائدة، فقال: اسألي الله أن يطلقني ولن ألمسك، قالت: اللهم أطلقه، فأطلقه الله، ولما ولت جاءه الشيطان فلحقها فدعت الله عليه ففعل ذلك ثلاث مرات يراودها وهي تدعو الله، حتى ظن أنها ليست من الإنس، فأمر بإخراجها، وفي هذه الأثناء كشف الله لإبراهيم الحجب حتى يرى كل شيء، فلا يبقى في نفسه شك، فلما خرجت أخدمها الملك هاجر وهي أم إسماعيل، ولما دخلت على إبراهيم قال: ما صنعتِ، قالت: أخزى الله الكافر فكف يده وأخدمنا هاجر.
هذه كذبات إبراهيم -في نظره- ومع هذا يقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقول: نفسي نفسي، إني قد قتلت نفساً، فجريمتي لا تؤهلني لأشفع للناس عند الله، وهو من أولي العزم ومن أفضل الرسل، وقد اصطفاه الله، يقول الله تعالى له: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:١٤٤] ويقول فيه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:٤١] وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، فأقوم وإذا موسى قائم عند العرش فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور) فهو من أولي العزم، ومع هذا يقول: أنا لا أستطيع أن أقول شيئاً، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فلا يذكر ذنباً وإنما يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد، لا أسألك اليوم إلا نفسي.